التجهيل المقدّس في مهمّة المثقف الإصلاحيَّة

التجهيل المقدّس في مهمّة المثقف الإصلاحيَّة
آخر تحديث:

د. رسول محمد رسول

كان الباحث الفرنسي أوليفييه روا، وفي كتابه الجهل المقدّس، قد أشار إلى أن هذا الجهل يوجد عندما يتم «إلغاء اللغة لصالح الكلام»، وذلك «مثال على الجهل المقدّس»(1)، ولم يتحدّث أوليفييه روا عمّا يجري في شأن الدين الإسلامي، لكنّنا نميل إلى استثمار هذا المصطلح ونتحدّث عمّا نحن نسميه التجهيل (Blackout) المقدّس الذي يمارسه أشخاص آخرون باسم الدين، لا سيما المتفيقهين منهم، تأويلاً من عندهم وفق مصالح لهم أو مصالح ومآرب غيرهم سواء كانت ذاتية أو على نحو منظماتي أو مؤسساتي شأنها حجب حقيقة المعنى والمقصد الذي يريده الدين أو الضوابط الإلهيّة للوجود والحياة، وهي عملية رافقت الإسلام منذ إشراقته الأولى تلك التي كان المشركون واليهود والنصارى، ومن ثمَّ المسلمون أنفسهم، قد شرعوا بها لتستمر في عصور لاحقة حتى يومنا هذا، خصوصاً بعض المحسوبين على قائمة الفقهاء المسلمين الذين شاركوا فيها وبها بقصد تعمية الناس عن حقيقة المعنى الديني أو الدين في حدِّ ذاته، وإخفاء نور الدين الحقيقي هذا عن الناس حتى راح التجهيل الذي يضفون عليه صفة القداسة يمارس دوره في التخريب لكونه يستفز الرعاعية؛ بل الغوغائية لدى النفوس الضالة؛ بل ويُوقظ الغرائزية والبهيمية لديهم، ويتغنّى بالطقوسية العمياء، الفردية والجماعاتية. وفي هذا السياق كم رأينا مثل هذه التطلّعات والممارسات في المجتمع العراقي بعد نيسان/ أبريل 2003؛ فكم تحوّل مُلتحٍ سيماه رجل دين في واجهته العامة إلى منتج لثقافة التجهيل المقدّس وتسويقها في المجتمع؟ بل كم رأينا من هذه الواجهات وهي تتلبّس رداء الدين وهي تتاجر بالممنوعات غير المرغوبة، والدعارة، والقمار، والمتاجرة بالأعضاء اللحمية البشرية، والمتاجرة ببيع الأطفال، وكذلك المتاجرة بطقوس زيارات أضرحة الأئمة والأولياء والصالحين، وبطقوس الشعائر الدينية – المذهبية؟ هذه السلوكيات أصبحت شائعة في عالمنا الإسلامي كما جرى في العراق لا سيما بعد سقوط نظام الدولة البعثية؟ (انظر في عمليات إلقاء القبض على مافيات الروليت وصالات القمار وتجارة المخدرات وبيع وشراء النساء بالعاصمة بغداد يوم 5 أغسطس 2019، ولم تنته هذه العصابات بعد التي كان يقودها شخص مقرب ومدعوم من إسلاميين يحكمون في السلطة). فمن الضروري للمثقف التنويري أن يتصدّى، وعلى نحو جذري، لمثل هذه الثقافة التجهيلية العمائية الخافية لنور الدين الحقيقي، هذه الثقافة التي تنتج الشر في المجتمع، وترمي الإنسان إلى هاوية التيه والضياع.   نحن نعيب اختراق المقدّس الديني، اختراقه من أجل التلذّذ بالاختراق أو الاختراق من أجل الاختراق! لا سيما أن الله سبحانه قال للناس: {اتَّقُوا اللَّهَ} (البقرة: 189). ووظيفة الفيلسوف أو المثقف التنويري هي «مُمارسة تعيد بناء الوجود البشري والمعرفي لإنساننا العربي المأمول وفق طاقة قدراته العقلية ومكانته الأنطولوجية من خلال أربعة مسارات متعاقدة متجاورة متفاعلة هي: 

اتجاه معرفي قوامه العقلانية النقدية الإنسانية. واتجاه قيمي قوامه إحياء قيم التعايش السلمي والتواصل الحضاري والثقافي بين الأفراد والمجتمعات والحضارات. 

اتجاه مجتمعي قوامه إحياء ثقافة المسؤولية الجماعية – المجتمعية غير المتعصبة ولا المتطرّفة ولا التكفيرية أو التبديعية بغية تقويض وتفكيك الوعي التحريمي والتكفيري والتبديعي أو التبدُّعي والتدميري المتطرّف الناتج عن أهواء جهويّة ومرضية متعصبة سواء أكانت رعاعية أم دينية أم مذهبية في الدين أم عرقية أم مناطقية. اتجاه أنطولوجي قوامه أنّ الإنسان والمجتمع والعالم هي موجودات أنطولوجية، ما يتطلَّب إحياء الوعي بأنطولوجيا الوجود والحياة والسلوك اليومي. إن مَهمة من هذا النوع هي مَهمة المثقف التنويري وهو ينظر إلى الدين». وهي رؤيه كنتُ نضدّتها منذ سنة 2012 في محاضرة لي كان عنوانها «الفيلسوف العربي في القرن 21»(2).

إرادة الاقتدار التنويري

 لقد تطوّر النظر عندي حول الدور التنويري الذي لا بدّ أن يضطلع به المثقف التنويري؛ ففي شهر آذار/ مارس من سنة 2015، كنتُ ألقيتُ محاضرةً بالجامعة المستنصرية في بغداد تحت عنوان «الفيلسوف والتنوير»، وانتهيت إلى رسم معالم أخرى للفيلسوف التنويري أو المثقف التنويري والدور المُنتظر منه.

لقد توصّلت فيها إلى ضرورة أن يستحضر الفيلسوف التنويري المأمول «إرادة الرغبة العقلية الحقيقية والمقتدرة بالتنوير بعيداً عن أيّة ميول جهويّة أو أسطورية أو خرافية متعالية»، وكذلك «يستحضر إرادة التخلُّص من الشعور الحاد بالغربة السلبية عبر تفكيك هذا الشعور ودحره صوب الانفتاح التفاعلي الخلّاق بين الفيلسوف والمعرفة والواقع المعاش»، وأيضاً ضرورة «تفادي التعالي على أنموذج فيلسوف يمكن أن يكون هادياً إلى مشروع تنويري ما» حقيقي ونافع، إلى جانب «تبديد مخادعة الحدوث التاريخاني لفعل التفكير الفلسفي التي يبديها هذا الطرف أو ذاك من دُعاة اليأس الذاتي الذين عجزوا عن وصل معرفتهم الفلسفية وملامستها مع حراك الواقع المجتمعي اليومي خارج الإطار المؤسساتي»، إلى جانب «النظر إلى ما يجري في الواقع كاستثناء وحدث وانقطاع لا مجرّد صيرورة غُفل تأتي وتمر وتذهب بحيث تهيئ هذه الثلاثية المفهومية لبنية المعرفة الفلسفية طابعها في أن تكون الاستثناء المعرفي، والحدث المعرفي، والانقطاع المعرفي، وتهيئ تجربتها التاريخانية أيضاً لولادة فيلسوف الاستثناء المعرفي، وفيلسوف الحدث المعرفي، وفيلسوف الانقطاع/ القطيعة المعرفي الفلسفي الأصيل». 

ناهيك عن أنّ الفيلسوف التنويري له أنْ «يوقظ الحوار مع ما يجري في العالم؛ ويوقظ التنافذ التواصلي مع مصير العالم عبر التفكُّر الأصيل الذي هو مصيره الوجودي والأنطولوجي كإنسان وهبته طبيعته القدرة على التفكير الخلّاق في ما يجري، وفي ما يكون، وفي ما سيكون أو ممكن أن يكون»(3)، وتلك هي إرادة الاقتدار التنويري الإنساني العقلاني النقدي التي نبتغي أن توجد وتكون ويُعمل بها في راهن الحضارة.

 وفي السنة ذاتها، وتحديداً في مايو/ أيار 2015، كنتُ ألقيتُ محاضرة في (بيت الحكمة) العراقي عنوانها «بعيداً عن نزوة الطاووس» جدّدت فيها دعوتي إلى المثقف عبر شخص الفيلسوف التنويري بأن «يوجّه طاقته المعرفية صوب تفكيك كيان العنف بكُل تأويلات خطابه المتطرّفة»، وكذلك بدت لي مَهمة الفيلسوف التنويري هذه «ذات شأن بارز لكونها الممر الحقيقي المؤدِّي إلى فتح الموالج أمام مُساءلة خطابات هذه النزعة التهديمية في أكثر صورها بشاعة وقتلاً للحياة، ونحراً للمستقبل..؛ بل مساءلتها الجذرية بكشف تناقضاتها، وتعرية طروحاتها، وفضح مسارات تفكيرها؛ أليسَ الإنسان هو الموجود التساؤلي بين جميع الخلق»(4)، وأيضاً لا بد على المثقف التنويري أن يتخلّص جذرياً من فخ أن يكون مفتوناً بالنزعة الطاووسيّة، وأن يعمل على «تجديد دوره على نحو مزدوج ومتزامن؛ تجديد دوره المعرفي الخلاق، وتجديد دوره الوجودي اليقظ معاً، ومعاودة ذلك الدور بأصالة خلاقة فائقة في انهماكها التاريخاني عبر تبديد عزلة الفيلسوف التنويري؛ بل استعجال مُساءلة ذلك الـ ما يجري، والـ ما يحدث في الواقع وعلى نحو متروٍّ»(5).

الدين في حدِّ ذاته

 في فصول كتابنا هذا -التديُّن والتنوير- تبدو الحاجة ماسّة اليوم إلى النظر في زوايا العلاقة بين التديُّن والتنوير، وتجديد القول فيها بغية وضع النقاط على الحروف وبشجاعة لأننا أصبحنا نواجه التديُّن المزيف – التديُّن وليس الدين في حدِّ ذاته- في يوميات تريد قتل الدين نفسه عبر تأويلات ومُمارسات ما أنزل الله بها من سُلطان؛ وكم طالب الله بالنأي عن هكذا تأويلات لكون الدين أكثر رفعة من أن يصبح سيفاً يُنزّل على رقاب الناس بأكثر مما هم يتحمّلون أو هُزالاً طقوسياً تسويقياً شعبياً تجارياً، وهو ما تقوم به التأويلات التديُّنيّة العملية نافرة الوجود في أيامنا هذه، وعلى مختلف إشكالها؛ فباسمها صار التديُّن الضار سبباً يؤدي – في نهاية المطاف – إلى قتل الإنسان، وقبل قتله يعيش – هذا الإنسان – شتى أنواع التيه والويلات والمآسي والذل والهوان، كما هو حال التديُّن في لباسه السياسي اللصوصي الذي حكم العراق منذ 2003 في كل صوره المذهبية، وفضحته ثورة الشعب في الأول وفي الخامس والعشرين من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2019 في العراق.

 إنّنا لا نرمي كل هذه المصائب على الدين في حدِّ ذاته، ولا على ذمة الفقيه الديني الأصيل الذي يرعى بيضة الدين وفق حرص متناهٍ بما لا يضر على حقيقة الدين في حدِّ ذاته، لا سيما الدين الإسلامي، وما نراه أن مُمارسة الدين – أو التديُّن – أنها المسؤول الأول عن كل أشكال الضياع والتيه التي نرى وهو ما مُني ويُمنى به الناس في بعض دول لعالم الإسلامي. 

ولعل مَهمة المثقف التنويرية هي التصدّي لمثل هذه التأويلات/ التفسيرات عندما تتخذ أسلوب المُمارسة العملية الضارة أيما ضرر وعلى نحو مزدوج؛ فهي تضرُّ الدين في حدِّ ذاته عندما تجرّه إلى حبائل الخداع من جهة، وتضرّه عندما تمارسه تأويلاً وتفسيراً بما لا يريد قوله الدين ذاته عندما تتعامل معه بوصفه كلاماً مُقوّلاً بما لا يريد قوله – الدين في حدِّ ذاته – حتى تلوي عنقه ببلاغة الزيغ. لقد بات هكذا تديُّن، وباتت هكذا هرطقات شعبية موضع سؤال ومحط شبه! 

 إنّ المثقف التنويري يستنير بالدين في حدِّ ذاته وهو يحتفي بالإنسان بوصفه إنساناً بلا خداع ولا تقويل زائف؛ ولذلك نظرنا في حضوريّة النور الإلهي لكي نقف عنده، وأيضاً عند معنى فهمنا للتنوير في القرن الأول الهجري، ومن ثم نظرنا في معنى الوصاية التي يبتغيها الدين في حدِّ ذاته لعلّنا نقدّم رؤية صافية على قدر ما من غلواء التأويل والتفسيرات المُضرة بالدين والإنسان.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *