التدريب على الرؤية

التدريب على الرؤية
آخر تحديث:

ياسين النصير

 كلُّ حاسة من حواسنا عبارة معدة، تُهضَم فيها ما يصلها من طعام عبر الحواس، وتتمثله ليصبح نتاجًا يستثمره العقل، ويفعّله في مجالات حياتية مختلفة، كل حاسة جهاز هضمي مكتمل، وثمة رغبة في التهام العالم الذي يحيط بنا، أو أن نحول العالم إلى طعام دائم لحواسنا. سواء اكان أشياء ترى، أم أصواتا تسمع، أم عوالم تحس، أم مادة تتذوق، أم رائحة تُشم، الجسد البشري مطبخ كوني، وعبثا نختزله إلى جزئية منه، كالجنس، أو العاطفة، أو الحزن. من هنا، وفي ضوء هذه الكينونة الكاملة للجسد، علينا أن ندرك، أن أي شيء نراه ليس وحده، بل نرى أيضًا ما يحيط به، فرؤية الشيء لا تعني اكتماله، الشيء علاقات، حتى لو كان في صحراء، وكينونة الشيء ليس الوجود في ذاته، بل الوجود في علاقاته، وعلينا أن ندرّب أنفسنا، عندما نرى شيئا، أن نظيف إليه ما يحيط به.

فالعالم لا يقتصر على الأشياء المرئية، فوراء كل مرئي أشكال غير مرئية، وعدم رؤيتها لا ينفي وجودها. فأعيننا لا ترى كل شيء، وآذاننا لا تسمع كل الأصوات، وحاستنا الذوقية لاتميز كل الأطعمة، وشمنا لا يستوعب روائح هواء العالم، ولمسنا لايميز كل درجات الطقس والأشياء، فثمة عشرات الحالات المختفية التي سيطر عليها الشيء المرئي، فأصبح بؤرة للرؤية، ثم حذفنا ما يحيط به من تكوينات.

عندما أقول التدريب على الرؤية، أعني أن أشمل كل حواسنا بها، فالصوت رؤية سماعية، والحس رؤية لمسية، والذوق رؤية ارستقراطية للتمييز، والشم رؤية لعطر الأشكال والأنواع، والشم رؤية لروائح العالم، كل الرؤى عندما تجتمع تؤلف الإدراك، العالم لايدرك بحاسة واحدة، ولا يرى كليا بالعين الواحدة، ولا يكتمل السمع بإذن واحدة، ولا يمكنك العيش في العالم إلّا متى ما تمكّنت من استنفار حواس كلها لتراه، فالعيش دائما يكون مكتملًا، وعبثا نتصور أنفسنا، ونحن نمارس افعالا،  أن الفعل مقتصر على من يعيه.

إلّا أنّ عملية استيعاب العالم الذي يحيط بنا، او الذي يحيط بالشيء الذي نراه، ليست بهذه البساطة التي يوفرها الجسد من خلال ملكاته الحسية فقط، وإنما يضاف لها عنصر الخيال، وبدون هذا العنصر الخلّاق لايمكن أن ترى الأشياء على حقيقتها، فالواقع الموضوعي يقدم لك الأشياء نيئة، مباشرة، غير مطبوخة، وليس لها القدرة على أن تكون طعاما لأية حاسة، ما لم يصاحبها الخيال، فالمخيلة هي نار الأشياء تمزج حرارتها بالرؤية القصدية لها، الرؤية هي التي تجعل حواسنا مجسات للعالم المادي عبر اختراقها قشرة الاشياء الخارجية والذهاب إلى جوهرها، إلى اللامرئي فيها. فالرؤية الممنهجة الطريق إلى الفلسفة “إن أفضل تفكير فلسفي استعمل دوما، وينبغي أن يستعمل بالضبط نفس الموارد المبنية على الجسد ونفس الموارد التخييلية التي يستخدمها التفكير البشري اليومي” الفلسفة في الجسد ص 679. وثمة عقلان لدينا: عقل نظري، وعقل عملي، العقل النظري عقل تأملي، إنَّه يهدف إلى وصف الظواهر وتفسيرها، وبذلك فهو يتصل بالمُعتقدات المُبررَّة. أما العقل العملي: فيهدف إلى تلبية الرغبة من خلال الفعل، وبذلك فهو يستخدم نتائج العقل النظري لتحديد الطريقة المُثلى للفعل بحيث يلبي الرغبة، إنَّه مصدر المبادئ التي تتحكم في إقامة الربط بين الوسيلة والغاية، هكذا تكون الفلسفة مبنية في حواسنا، والجسد، هذا التكوين الكوني هو المطبخ الذي يعجن  بوذا فيه رؤيا للعالم.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *