التعايش الإبداعي بين قصيدة النَّثر وشاعرها

التعايش الإبداعي بين قصيدة النَّثر وشاعرها
آخر تحديث:

د. نادية هناوي 

لا يخفى أنَّ الشعر روح حرة لها أجناس كما لها أشكال، لا تعرف شرطاً يحدد لها أطرها ولا قانوناً يبلّور لها مساراتها. وقصيدة النثر تركيبة شعرية أثبتت قدرتها على المثول جنسا مميزا، يفرض وجوده في عالم الشعرية الراهنة. وهدفها الأساس تنثير الشعر أو تشعير النثر، تخفيفاً من حمى الوزنية ومراهنة على الايقاعية الصورية لا الصوتية، وبالشكل الذي يشبه النقر لكن ليس على الطبل والتنغيم لكن من دون صدح.

وبما يؤكد لمؤيدي هذه القصيدة ومعارضيها معا، أنَّ كتابتها ليست تمارضاً شعرياً؛ بل هو تعاف إبداعي، وهي وإنْ كانت بشارة لولادة مرحلة شعرية قادمة، فإنها قد تكون امتداداً وقد تكون انقطاعا؛ إلا إنها ليست عشبة الاسمنت التي ستنثرن الشعرية بهجانة، وتشعرن النثرية بتطفلية، إنما هي شكل شعري ثبتت شاعريته عند رواد هذه القصيدة ثم ثبتت حضوريته عند أجيال لاحقة لجيل الرواد. 

وكثيرة هي الأوصاف التي تحاول أنْ تمنتج قصيدة النثر منتجةً نقديةً تباركها بيروقراطية التعاطي النقدي المحافظ، المنطلقة من نسقية شكلية تراتبية، بها تغدو أية صناعة شعرية كتابية مستحدثة مجرد تضليل أو مهادنة، فيها الشاعر مستوغ لا غوي سواء أكان هذا الشاعر امرأة أم رجلا. 

والإبداع الشعري هو الذي يفرض طريقة الكتابة، وهو الذي فيه يتقاسم الشاعر المعاناة مع القصيدة التي ينبغي ألا تكون يسيرة المنال فيصل إليها الشاعر بسهولة، لكن ما شكل القصيدة التي تتمثل أمام شاعرها بهناء لا مراء فيه ولا استعصاء ؟ وماذا لو أصبحت القصيدة بالنسبة إليه جداراً صلداً وحصناً منيعاً ؟ أ هي لغته التي تخذله أم أدواته التي لا تسعفه في اكمال عمله وبلوغ مراده ؟!

 بالطبع هذا أمر عاناه الشعراء على مرِّ الدهور، وحتى الشعراء الكبار كانت لهم تجارب قاسية مع قصائدهم. وأحسن القصائد هي تلك التي تواتي صاحبها من دون عناء وربما بعد عناء شريطة ألا يكون ذلك العناء عن غلظة طبع أو قصور موهبة، فذلك سيزيد القصيدة بُعداً والتواءً لتغدو مستحيلة المنال.

ولعلَّ نفراً من شعرائنا وشواعرنا قد أغوتهم قصائدهم، فصاروا يهادنونها وكأنهم عبيدٌ لها تسيّرهم بحسب رغبتها، وليس لهم بد إلا أن ينساقوا وراءها تابعين لا متبوعين. وليس مع هذه الحال أية توقعات سوى أنَّ القصيدة ستغدر بشاعرها يوماً ما، حتى إذا رام ابتكارها لم يجدها وإذا ما طلبها خذلته. 

 مثل هكذا شاعر لن يقول جديداً، وسيجد أنّ متلقيه قراء أو سامعين قد اعتادوا أن يسمعوا منه الأقوال نفسها والأشكال عينها، وسيغدو ما يقوله مكروراً معاداً لا لمحة تجديد تعتريه، ولا مسحة تغيير أو إبداع تطرأ عليه، لينزوي عند ذاك وقد أفرغ كل ما في جعبته من أدوات، مسلما بالأمر الواقع، معترفا بأن القصيدة غلبته وتركته مهشماً غير متمكن من أن يجاريها أو يتغلب عليها. 

 ولن يصل الشاعر إلى هذا الحال، ما دام مقصده  إبقاء إبداعه مشرعا بلا حدود، متمتعا برؤى انفتاحية، مالكا بيديه أدوات الابداع التي تمكنه من أن يظفر بقصيدته متى شاء وانّى حل، غير تارك للقصيدة أن تقتاده. وقد لا يتحقق هذا الأمر إلا إذا آمن بتماهي الحدود بين أجناس الشعر وأنواعه، واضعا في حسبانه وهو يدخل منطقة الشعر أن لا موانع ولا حدود تعيق انطلاق إلهامه كي لا يكون الضحية لتلك الحدود أولا، وليستطيع مماراة قصيدته فلا يهادنها آخرا، وعند ذاك ستغدو طوع أمره وملك بنانه.

 وحينما يتم هذا التصالح الإبداعي بين الشاعر وقصيدته، فإن ذلك سينعكس حتما على الطرف الثالث، أعني المتلقي الذي سيكون حاضرا بقوة انطباعاته الذوقية وبإصراره على إثبات مشاركته الابداعية، ممارسا دوره بفاعلية  وانتاجية.

 وهذ التلقي المنتج هو أهم سمة من سمات القصيدة ما بعد الحداثية، فالقصيدة اليوم لا تكتمل إلا بقارئ أو سامع منتج ومجد، يتفاعل بإيجاب ويشارك بقصدية ووعي.من هذا المنطلق الذي نسمه على المستوى الابداعي بـ( التعايش الإبداعي) ستتحقق الألفة بين الشاعر والمتلقي والشاعر والناقد.

 ولا خلاف أن النقد فن قبل أن يكون علما وهو مكمل إبداعي لا وجود للإبداع من دونه، والناقد يتمم عمل الشاعر حين يقربه من أذهان المتلقين، مشاركا معه إبداعه لا واقفا حجر عثرة بين الشاعر ومتلقيه. 

وهكذا فهم العرب القدماء النقد حتى سموا ممارسيه علماء بالشعر وصار الناقد يميز ويعلل ويشرح ويفسر من دون أن يقصي الشاعر أو يتعدى على حدوده. ومثلما أن لا شعر من دون نقد، فكذلك لا نقد من دون شعر. وإذا كان النقد تاليا للشعر فإن الشعر متلو به في الآن نفسه، وبهما معا تتحرك عجلة الابداع وتتقدم. وطالما شهد تراثنا الشعري القديم تصالحا إبداعيا بين الشاعر والناقد وتعايشا ثقافيا بينهما فلا الشاعر يخشى الناقد ولا الناقد يخشى الشاعر لأنهما مشتركان في  الابداع. 

والقارئ هو القطب الذي يسعى المبدع إلى المراهنة عليه والمقامرة في إثبات فاعلية دوره الذي يتجسد في عدم الانقياد للجملة الشعرية إلا بعد أن يكون قد استوعبها، متشبّعا معناها، عارفا أنها جاءت في سياقها وضمن إطارها الذي تخوض فيه.

وهذا هو بالضبط ما نريده لا لقارئ قصيدة النثر حسب؛ بل لقارئ نقدها الأدبي أيضاً، متفقها في ما يكتنفه من تفسيرات من قبيل: هل قيلت في محلها أو لا؟ وهل آتت التحليلات الجماليَّة أكلها أم لم تأتِ؟!

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *