حاول البعض الفصل بين بلاد عربية وأخرى بحجة أو بغير حجة، ويقوم بافتعال العداوة بينهما لسبب أو لآخر. حتى وصل الأمر إلى أن مباراة كرة، أو حفلة طرب، أو جلسة سمر، تتحول إلى مناسبة ملائمة لإثارة الكراهية والبغضاء بين الشعوب.في وقت ما جرى تأسيس تجمعات تطلق على نفسها اسم أحزاب الأمة. فهناك حزب أمة مصري، وآخر عراقي، وثالث سوداني، وهكذا. وهي أحزاب إقليمية لا تقر بوجود رابطة خاصة بين العرب، وتنكر أي خصوصية تجمعهم ببعضهم البعض.ولم يحدث هذا النفور بسبب سعي قوى خارجية فحسب، بل بتدخل العرب أنفسهم. حتى أن القوميين العرب الذين حكموا في حقبة ما بعد الاستعمار، كانوا طرفاً فيه، بسبب إخفاقاتهم السياسية، وعجزهم عن بناء اقتصاد متين، وفشلهم في ترسيخ ثقافة وحدوية، وغير ذلك من أمور.ولكن جميع «الناكثين» حينما تحل بهم أزمة، أو تنزل بهم نازلة، يلتفتون إلى إخوانهم العرب، ويوسعونهم شتماً، ولوماً، وتقريعاً، لتقاعسهم عن مد يد العون إليهم ساعة الشدة!ومعنى ذلك أنهم في قرارة أنفسهم يؤمنون بكل مبادئ القومية، التي يسخرون منها. ويعترفون بوحدة المصير، التي يتجنبون الحديث عنها.والواقع أن هؤلاء جميعاً لا يدركون أن ما يجمع بين العرب ليس السياسة، ولا الزعامات، ولا النظريات المحضة، لأن هذه الأمور قابلة للتغيير بين جيل وآخر. ولكن ما يجمع بينهم حقاً هو الثقافة المشتركة، التي تأبى الانقسام إلى ثقافات فرعية. فليس هناك رغم الحدود المنيعة والخلافات المزمنة والصراعات الدامية، ثقافة مصرية أو ثقافة سورية أو ثقافة عراقية أو ثقافة لبنانية .. ألخ. ولم يجرؤ أي من دعاة الانعزال أن يتبنى واحداً منها، لأنه يعرف أنها لن تحوز على القبول في أي من هذه البلدان.ومع أن الثقافة مفهوم مختلف عليه كثيراً، إلا أن رموزها في العالم العربي ينتمون إلى بلدان مختلفة، ويحظون فيها بالإجماع. فطه حسين وجبران ونزار قباني والجواهري ومالك بن نبي وعبد الله العروي ومئات غيرهم يقرأون من المحيط إلى الخليج دون أي حساسية. ويؤثرون في الأجيال العربية دون أي تحفظ.ربما لا يؤمن كثيرون أن العرب شعب واحد، لأن كل بلد من بلدانهم له أنظمة وقوانين وعادات وحدود مختلفة عن بعضها البعض. ولكن لا أحد ينكر أن لديهم ذائقة فنية وأدبية وتأريخية واحدة، وأن أي عمل ثقافي ناجح يجد له جمهوراً في جميع هذه البلدان.حتى الأقليات التي غدا صوت بعضها عالياً ومسموعاً، لا تمتلك ثقافات أخرى غير العربية. وليس لديها سوى مأثورات شفاهية متواضعة وقليلة الانتشار.حينما تكون الثقافة واحدة، فلن تستطيع الحدود ولا الأنظمة ولا الجيوش ولا الزعامات ولا المسافات أن تفصل بينها، لأنها الأصل الذي تبنى عليه الدول، وتنهض باسمه الحضارات، وتسن من أجله التشريعات. وليس بإمكان كائن ما أن يتجاهل هذه الحقيقة، أو يغض النظر عنها على الإطلاق.