في زحمة، وتشابك القضايا والمشكلات، بل والمآسي، التي احاطت وتحيط بالبلاد العراقية، وما يرتبط بها، خارجيا، برزت وتبرز أكثر فأكثر موضوعة دور المثقفين ومهامهم، التنويرية، وكذلك التضليلية، بشأن تلك الاحداث، الراهنة وما سبقها، وسيليها .. والمثقفون المعنيون في عنوان هذه الكتابة، هم كل أهل المعارف، ومن حملها – وربما إدعاها!- وبينهم السياسيون بشكل رئيس: يخص مفكرين وكتاباً واعلاميين ومختصين، الى جانب المبدعين طبعا، شعراء وأدباء وفنانين وسواهم.. ولكي لا تدعي هذه السطور، أو تُحمّل أكثر مما تريده وتعنيه، فلنسمها وقفات ولمحات، واستشهادات لا غير، وبتوضيح أزيّـد فهي لا تأخذ منحى الدراسة الشاملة، أو البحث المنهجي أو الاستقصاء والتحليل الفياض .. وحين يجري الحديث عن الجواهري والمثقفين، فثمة دوافع وأركان عديدة تدفع لذلك، ولا نعتقد بأنها ذات حاجة للاسهاب والأطالة، فالرجل يجمع ميزات عديدة في تلك الحلبة، نجزم بأن لا يختلف عليها اي أثنين. إذ هو في معمعان ذلكم الميدان، بل وفي وسطه لعقود وعقود .. وفي منجزه الثري ما يعـوّل عليه بشكل كبير، الى جانب تجاربه مع ذلك الوسط المتميز،بكل تجاذباته، والعلاقة به، ومعه. أما عن موقفه من الشعر، واربابه من الشعراء، فذلك أبدى للعيان من غيره، وهو القائل، وليس غيره: (1) حسبتنى وعقابُ الجو يصعدُ بي، الى السمواتِ محمولاً الى وطني وخلتني والنجوم الزهر طوعَ يدي، عنهنّ في ما أصوغ النيراتِ غني ما أقرب الشمس مني غير ان فمي، ما ان يغني لغير الشعرِ من وثـنِ وأتصالاً بما سبق، ذلك هو ديوان الجواهري العامر، ونثره الادبي، ومقالاته الصحفية، وكتاباته الاخرى شواهد أكثر من حية على ما نحسب . ومن المهم بتقديري الانتباه هنا الى تداخل قصيد الشاعر ومواقفه، واحاديثه، وشواهده، بين الخاص/ الشخصي مع العام، وهكذا كمْ نجد صعوبات في التفريق بينها . ومؤكد انه أبتغى أشاعة مفاهيمه ورؤاه الوطنية، دعوةً ضروريةً وإقتداء بأرثه وتراثه متعدد الاوجه، لأن ينحو المثقفون بذلك الاتجاه، وطنيا، وثباتاً، ومهاماً وتنويراً، فضلاً عن العطاء الجمالي والروحي. والأمر سيان اذا ما جاء بعض ابيات قصيده: وصف حال أو تحريضاً، أو غضباً على الذات، او المجتع عموما . اضافة لما تقدم، وفي الخطاب المباشر، على وفق رؤى الجواهري، فأن للمثقفين مسؤوليات استثنائية امام المجتمع والجماهير والبلاد، وقد بيّنها في قصائد عديدة، سنعرج عليها في التالي من السطور. ومن المهم الاشارة هنا الى تصورنا بان الشاعر الخالد كان يضع في الحسبان ان المثقفين، بجميع اطيافهم، هم المتلقون الاساسيون، المباشرون لما يريده من ابيات قصيد، ويغرفه من عبر. فهم المرآة، والوسط الناقل، بينه والفئات الاجتماعية الاخرى، المعنية بما يريده لها، ويتمناه ويسعى اليه، لا سيما عبر « الأفكار الصادرة عن مثقفين ذوي مصداقية يمكنها أن تكون ذات آثار «ملموسة» و«واقعية» و«مادية» في حياة البشر» بحسب توماس سويل (2) . ودعونا هنا نشير لبعض ذلك بكل إيجاز: … فحول الوطنية هدفاً، وغاية، راح الجواهري وفي عديد من قصائده موثقا، ومفتخرا بما هو عليه شخصيا في هذا المجال، ولنكتفي ببيته الهادر من رائيته عام 1957 : أنا العراقُ لساني قلبه ودمي فراتهُ وكياني منه أشطارُ أما بشأن دعواته للتنوير، فتلكم – على سبيل المثال العابر- بائيته، عام 1944 وفيها يدعو للنهوض، وحتى المواجهة حين يشتد الامر: قـلْ للشباب تحفزوا، وتيقظوا وتألبــوا.. سيروا ولا تستوحشوا، ورِدوا ولا تتهيبوا لا تظمأوا إن الحياة معينها لا ينضبُ وعلى صعيد النقد السياسي والاجتماعي، نشير – وعلى سبيل المثال ايضا، وليس سوى- الى نونيته العصماء»دجلة الخير» عام 1962: لهفي على أمةٍ غاض الضمير بها، من مدعي العلمِ والآدابِ والدينِ لا بدّ معجلة كـفُ الخرابِ به، بيتٌ يقوم على هذي الأساطينِ ويقينا ان ما سبق لا يؤشر سوى القليل القليل مما أردنا الاضاءة له، إذ هناك شواهد وثوابت عديدة أخرى تبتدئ وقد لا تنتهي، ولربما بعضها أكثر وضوحا، وإيضاحا لما عنينا به. ان ما يوضح الصورة أكثر لما اردنا التعبير عنه، والتأشير اليه، في العلاقة الجواهرية مع المثقفين – والشعراء هنا رمز أول- هو ذلك الكمُ الواسع من قصائده التكريمية، أوالرثائية، وسواها، للمثقفين والشعراء والمفكرين، التي وردت في ديوانه العامر، ومن بينها، للعراقيين والعرب، وغيره، ومثلا للمتنبي، طه حسين، أحمد شوقي، جمال الدين الافغاني.. وبشارة الخورى، وغيرهم عديد عديد (3). وفي ضوء ما أشرنا اليه، وتعميدا له، لنقرأ معا للجواهري وهو يبيّن موقفه من المفكرين والمثقفين في مناسبات مختلفة، ولعل ما يوجز ذلك ما اشار اليه في الاحتفاء بذكرى ابي العلاء المعري عام 1944 : لثورةِ الفكرِ تاريخٌ يحدثنا بأن الف مسيحِ دونها صُلبا على الحصيرِ وكوزُ الماء يرفدهُ، وذهنهُ ورفوفٌ تحملُ الكتبا، أقام بالضجة الدنيا وأقعدها، شيخٌ أطلَّ عليها مشفقا حَدبا اما عن تبجيله للمنورين والمثقفين والشعراء، فلربما يصلح كعينة هنا، ما جاء في قصيدته في حفل استذكار الرصافي عام 1959 ومنها: لغـزُ الحياة وحيرةُ الألباب، ان يستحيلَ الفكـرُ محـض ترابِ … يا زمرة الشعراء شفّ نفوسهم، فرطان: فرطُ جوىَ وفرط عذابِ ذابوا ليسقوا الناسَ من مهجاتهم، خيرَ الشراب، مشعشعَ الأكوابِ وتحرّقت منهم لتعلي شعلةً، لبلادهم، كتـلٌ من الأعصابِ وإن كانت تلك شواهد موجزة عن بعض مواقف الشاعر الخالد تجاه المفكرين والشعراء والادباء، المنورين، يروح في قصائد عديدة اخرى منتقدا، ومعيباَ، وهاجياً للصنف الاخر من المثقفين، المضللين، السلبيين ان جاز القول، اجتماعياً وفكرياً وسياسياً هذه المرة، وحسب ظنه في الاقل، مؤمناً بذلك، وموثقاً له: «فأن صدقتُ فما في الناسِ مرتكباً، مثل الأديبِ أعان الجورَ، فارتكبا» (4). وما أحوج دنيانا وبلادنا وشعبها اليوم لمثل ذلك التوثيق الجواهري، خاصة وإن الذين عناهم راحوا يتفننون في التضليل، والتدليس، لدوافع ومآرب لا تقف عند حدود . وبتفاصيل أكثر، وبلا ترميز، يوثق الجواهري حالات وسمات، ناقداً ومنتقداً مواقف وسلوك مثقفين هنا وهناك، وبقسوة لاذعة ومباشرة، في مضامينها، ومن بين ما نقصده، ما جاء في «المقصورة» الشهيرة المنشورة عام 1947 ولعلها تتحدث عن رواهن اليوم في بلادنا : ومنتحلينَ سماتِ الأديب يظنونها جبباً ترتدى كما جاوبت «بومةٌ « بومة ً تقارضُ ما بينها بالثنى ويرعون في هذر ٍ يابس ٍ من القول، رعيّ الجمال الكلا ولاهينَ عن جدهم بالفراغ ، زوايا المقاهي لهم منتدى كما نورد ايضا وفي الشأن ذاته، ابياتاً من دالية (أزح عن صدرك الزبدا) عام 1975 حين وقف مخاطبا مثقفين وأدباء، وعبرهم آخرين وآخرين: وغافين ابتنوا طنباً، ثووا في ظله عمدا رضوا بالعلم مرتفقاً ، وبالاداب متسدا… يرون الحقَ مهتضَماً، وقولَ الحق مضطهدا وام «الضاد» قد هتكتْ، وربُّ «الضاد» قد جُلدا ولا يعنون – ما سلموا – بأية طعنة نفدا بهم عوزٌ إلى مددٍ ، وانت تريدهم مددا… ثم نثـلثُ الاستشهادين السالفين، بأبيات أخرى، من قصيدة لها وقائعها، وشخوصها، موسومة بعنوان (آليتُ) نظمت عام 1975 وهي تعني مثقفين رأى الجواهري بأنهم أفاقون مستأجرون، ومما أحتوته: ومساومينَ على الحروفِ كأنها تنزيلُ ذكـرِ مدّوا لعريان الضميرِ يداً بزعمهم تُعري ماذا تعري؟ انها شيّة الحجولِ على الأغـرِّ.. ومسخرينَ فهم لديكَ، وهم عليكَ! لقاء أجرِ كما يهمنا ان نؤشر ايضا الى ان الشاعر الخالد، وبرغم كل معاركه وخصوماته مع مثقفين لا تُبخس مواهبهم، وغيرهم، بل وفي مجمل اشعاره، لم يشرْ لاسماء معنيين سوى ثلاث مرات وحسب، على ما ندري، مستوحشاً ونابذاً الاسفاف. وهو على هذه الطريق، راح في المقابل يزجي الثناء للقادرين، من الادباء وغيرهم، على الخصام، بنبل وقيُــم (5): وقلتُ لحاقدين علي غيظاً، لأني لا أحبّ الاحتيالا هَبـوا كل القوافلَ في حماكم، فلا تهزوا بمن يحدو الجمالا ولا تدعوا الخصام يجوز حداً، بحيث يروح رخصا وأبتذالا وهنا ثمة ما نعتقده مناسباً الاشارة اليه ايضاً، ولو بعجالة، ضمن الخلاصات والمواقف ذات الصلة بموضوعنا، وهو أن للجواهري الخالد أكثر من موقف من الصحافة، والتي هي كما يفترض، ومطلوب: مرآة الاشعاع للابداع والثقافة والفكر، والوسط الأرحب الناقل لها، فكم ثمنّ وقيم مهامها، وتبناها، ولكن كم نقـدَ وانتقد في الآن ذاته: «الصفراء» منها، و»السيّارة» (6) بحسب وصفه، ومحرريها وصحفييها بطبيعة الحال، ممن ينفثون سموم الاحقاد والثارات والطائفية. ومما نوثق له هنا بيت شهير يوجز فيعبـر دون اسهاب، مستلٌ من قصيدة (عبد الحميد كرمي) التي القاها في بيروت عام 1950: وصحافةٌ صفـرُ الضميرِ كأنها: سلعٌ تباعُ وتشترى، وتُعــارُ أخيرا دعونا نعود لما بدأنا به مستهل هذه الكتابة، فنذكّر بأن كل ما سبق ليس سوى مؤشرات وخطوط عامة تصلح ان تفيد المتمكنين من البحث، وقتاً وحرصاً، فيفصلون ما يشاؤون . هوامش وآحالات: 1/ من قصيدة الجواهري( الغضب الخلاق/ من موطن الثلج) القاها في عدن عام 1981. 2/ كتاب ( المثقفون والمجتمع) الناشر: بازيك بوك- نيويورك 2010. 3/ للمزيد، هناك بحث مفصل لنا بعنوان ( مشاهير وشخصيات وأسماء في قصيد الجواهري) منشور على شبكة الانترنيت خريف عام 2017. 4/ من قصيدة (ابو العلاء المعري) للجواهري في استذكار أقيم في دمشق عام 1944. 5/ من قصيدة (تحية.. ونفثة غاضبة) ألقيت في المغرب عام 1974. 6/ كان الجواهري يستعمل وصف «السيّارة» للصحف العراقية والعربية التي لا قيّم عندها.