الجواهري معاصراً

الجواهري معاصراً
آخر تحديث:

 بغداد/ شبكة أخبار العراق- أقامت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية ملتقى موسعا عن الشاعر العراقي الراحل محمد مهدي الجواهري (1898 ـ 1997) بعنوان “الجواهري معاصراً” بمشاركة نخبة من الكُتاب والمفكرين عبر جلسات عُقدت على مدار يومين، وذلك إحياء لذكرى الشاعر العراقي الكبير الذي نال جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية عام (1990 ـ 1991) مفتتحاً بذلك باباً جديداً في الجائزة (الإنجاز الثقافي والعملي) تقديراً لمكانته الكبيرة في الشعر العربي المعاصر. وقد شهد الملتقى إطلاق كتاب “يا دجلة الخير.. مختارات من قصائد الجواهري”، الذي أعده الأديب عبدالإله عبدالقادر المدير التنفيذي لمؤسسة العويس الثقافية. في الجلسة الأولى التي أدارتها الشاعرة صالحة غابش قدم كل من الشاعر د. علي جعفر العلاق ورقة بعنوان “جماليات الغضب والقسوة”،ود. ضياء عبدالرزاق العاني ورقة بعنوان “الرفض في شعر الجَّواهري بين رصد الواقع وتأصيل المثال”، وقد أشار العلاق إلى أن الجواهري يبدو على العكس من أحمد شوقي مثلاً، لا يرتفع بقصيدته غالباً إلا في مناخ من التحدي والغيظ المحتدم والافتتان بالذات، تلك الغابة التي يعرف ممراتها الضيقة وهو مغمض العينين. لذلك ليس لديه، كما ليس لدى المتنبي أيضا، تلك الرقة التي تميز بها شعراء معدودون عبر تاريخنا الشعري كجرير، وعمر بن أبي ربيعة، والعباس بن الأحنف، والبحتري، والشريف الرضي، وشوقي على سبيل المثال.  وإذا كان شوقي يقف (كما أعتقد) في طليعة شعراء الصفاء اللغويّ الكبار في تاريخنا الشعريّ، فإن شعرية الجواهريّ الانفعالية واللغوية قد تجعله من النادرين، باستثناء المتنبي ربما، في امتلاكه هذه الصفة. ولا يذكرني شاعر معاصر بالمتنبي كما يذكرني الجواهري. فكلاهما يمتلك شخصية أسلوبية ووجدانية لا تذكر بغيرهما من الشعراء.  وإذا كان الشاعران يشتركان في افتتانهما العالي بالذات، فإن لكل منهما ما يخصه: كان تأمل المتنبي الموجع في أحوال البشر وتقلباتهم قد أنقذ الكثير من مدائحه من السقوط. وكان للجواهري طريقته الخاصة في بناء العبارة ونفسه الأمّارة بالغضب والتحدي اللتين ضمنتا له نبرته الشعرية الخاصة بين مجايليه. ولفت العلاق إلى أن صلة الجواهري بالمتنبي تتجاوز قشرة اللغة، أو إغراءات المعجم الشعري. إنها ذلك التلظّي وجذوة الغضب اللذان يهدران في الطبقات السفلى للقصيدة، وهي تلك الذات المتأججة التي تدبّ في مفاصل اللغة، وتفوح من مناخاتها فتجعل الخاص عاماً، والشأن العام بالغ الحميمية. وللجواهري قدرة غريبة: إنه يعوّض عن تراكم القصيدة، أو تشتتها بوحدة المزاج العاصف، وتلك الأنا الفوارة المحببة التي أجدها، دائماً، تتبنى عذاب الناس وأحلامهم البسيطة أو الصعبة على حد سواء. من النادر أن أجد قصيدة للجواهري إلا وفيها بعض من مزاجه الذي يتلظّى بالغضب، أو يموج بالتحدي، وهو ما يذكر دائماً بمزاج المتنبي وروحه الطافحة بالتوتر.أما د. ضياء العاني فأكد أن الجواهري لنفسه حدد موقعاً في قلب التاريخ العراقي بما عاش من عمر مديد، وما أرّخ من أحداث جسام، وما أثار من زوابع خلال سيرته السياسية والأدبية، شاهداً على قرن بأكمله من عمر العراق المعاصر. ورأى إنّ بنية الرفض في شعر الجواهري بنية أساسية فيه، إذ لم يكن رفضا عبثياً، ولا عدمياً مقطوع الصلة عن محيطه، بل هو رفض مؤسَّس على رؤية فنية وتصوُّر ذهني واضح، فبنية الرفض من خلال مستوياتها التي حُدِّدت بيَّنت لنا بوضوح قدرتها على تأطير رؤية الشاعر للمجتمع بكل صنوفه. وأضاف أن الجواهري حاول ترسيخ قيمه ومبادئه في المجتمع، من خلال استثمار الواقع وتناقضاته، لتقديم أفكاره، وإغناء تجربته الشعرية، واختبار قدرته على تصوير المجتمع بروح متوقدة، تستمد فاعليتها من الصدق الشعوري، وعمق انتمائه إلى الأرض والجماهير، حتى غدا شعره سجلا حافلا بالقيم والمبادئ التي تخدم المجتمع بكافة شرائحه، وصورة واضحة للتعامل بين الذات والواقع، وتشخيصاً للعلاقة القائمة بين الشعب والسلطة، فاستطاع من خلال هذه الرؤية إنجاز مشروع التحرر والنهضة، واتخذ من قيم التقدم والتخلف قاعدة لبلورة مشروعه، فاهتم بتعميق مبادئ الانتماء والهوية والتحريض على المجابهة والتطلع نحو تحقيق المجد والسؤد. لقد برزت في قصائد الرفض نزعته الخطابية فهو شاعر يجهر بما لديه، ويشرك الأشياء جميعها في انفعالاته وعواطفه وتجسّد ذلك في مظاهر لغوية عدة منها غزارة ضمائر الخطاب في نصوصه واتباعه أساليب تقتضي وجود مخاطب كأسلوب الأمر والنهي والنداء والاستفهام. وشارك في الجلسة الثانية التي أدارتها الكاتبة باسمة يونس كل من د. عارف الساعدي بورقة عنوانها “الجواهري .. جغرافية الكتابة”، ود. أحمد الزعبي بورقة عنوانها “حوار فلسفي بين الجواهري والمعرّي.. دراسة في الإشارات الفلسفية في قصيدة أبو العلاء المعرّي”، وقد رأى الساعدي أنَ المكان هو المؤثر الرئيس في شعر “الجواهري”، وإنَ قصائده تتبدل بتبدل الأمكنة، والمدن، وحتى القرى، وبسبب تجوال “الجواهري” وترحاله مسافراً ومنفيَاً، نجد ترحالاً مشابهاً في القصائد، حيث اللغة الشعرية التي تبدل جسدها بتبدل الأماكن، لهذا نجد معجمه الشعري دائم التحول، ودائم الإرتباط بالمكان الذي يعيشه،  بل إنه يأخذ جل ملامحه ونبرته من شكل المدينة التي يستقر فيها. وقال “وكأن المدن تنفث سحراً في لغة الجواهري، فيتحول بقدرة شاعر ملتصق بالمكان ومتأثر به، ومنفعل بتفاصيله، فالمكان جزء رئيس من قصيدة “الجواهري”، لذلك نجد هذا التفاوت الهائل بين جواهري النجف في العشرينيات، وجواهري براغ في الستينيات، وما بينهما مدنٌ وقرىً وحاراتٌ وشوارعٌ وملاهي وعواصم عربية وأوروبية. كل هذه الأماكن تركت أثرها على نص الجواهري، وأول هذا الأثر يتضح من القشرة الأولى وهي لغة القصيدة حيث تتحول من اللغة الوعرة والخشنة والتقليدية، إلى لغة مختلفة ومنسابة ودافئة ورقراقة، بعد اللغة تأتي الموضوعات التي يعالجها، فمن القضايا الكبرى التي يشترك بهمومها الملايين، نجده معبرا عن أصوات الجميع، فيما صوته الخاص والذاتي ذائب في تفاصيل هذه الملايين، علما ان التجربة الشعرية هي تجربة ذاتية خالصة. وأضاف “من الصوت الجماعي إلى الذات الشاعرة نجد جواهرياً مختلفأ، حيث يتناول قضايا خالصة للشعر، ولا وظيفية لكتابة النص إلا الشعر، وبهذا يخلص الجواهري لمشروعه الشعري أكثر فأكثر، حيث تختفي الوظيفية من القصيدة، وتصبح وظيفتها الأساس الشعر لا غير، فأنتج في براغ نصوصاً عديدة ضمن هذا السياق، كما إنَ أداءه الشكلي اختلف، فلأول مرة نجد الجواهري يكتب قصائده بقوافٍ مختلفةٍ، ومتعددة، وبمقاطع لا ضابط لها إلَا حين يكتمل المعنى الذي يريده. أما صوره الشعرية فهي تسير خلفه أينما سار، وتحط أينما حط ركابه، فتتلبَس مناخ المدن التي يسكنها، وتتزيَا بأزيائها في الوقت نفسه، فصوره الخشنة والحادة التي كان يقولها في شبابه، تغيرت كثيراً، فمن النجف إلى طهران، ومن النجف إلى بغداد، ومن بغداد إلى دمشق ومن بغداد إلى بيروت، ومن بغداد إلى براغ، كل تلك المدن كان لها أثرها على تشكيل صوره الشعرية التي تتحول بتحول المكان وتبدله.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *