الحقُّ في الخطأ ضرورةٌ تربويَّة

الحقُّ في الخطأ ضرورةٌ تربويَّة
آخر تحديث:

د.عبدالجبار الرفاعي

قال أحدُ تلامذتي أنه اندهش مما جاء في مقدمة طبعة بغداد لكتاب: «مقدمة في علم الكلام الجديد»، وبخاصة هذا المقطع: «يعترف المؤلفُ بأن كلَّ نصٍّ يكتبُه لا يراه نهائيًا، يكتبُه كمسوّدة، وبعد تحريرٍ وتنقيحٍ ومراجعاتٍ متعدّدة يبعثه لدار النشر، وعند نشره تتحوّل هذه الطبعةُ إلى مسوّدة لطبعةٍ لاحقة، وهكذا تلبث كتاباتُه مسوّداتٍ غير مكتملة، كلُّ طبعة جديدة مسوّدةٌ لطبعة لاحقة، وكأنه يحلم بالكمال الذي يعرفُ أنه لن يدركَه في كلِّ ما يكتبُه». أثار دهشته كما قال: عدم قراءته لمثل ذلك في كتابات اعتاد قراءتها.

سألني: ألا يُحرجك ذلك أمام القرّاء، هل تريد حثّ الآخرين على الاعتراف بأخطائهم وهفواتهم في الكتابة؟

قلت له: كلُّ مَنْ يفكر يخطئ، مَنْ لا يفكر لا يخطئ. لا يتحرّر الإنسانُ من الخطأ غالبًا إلّا بعد وقوعه فيه، وإدراكه له، وقدرته على عبوره. مَنْ يمتلك شجاعة الاعتراف بالخطأ يمتلك القدرة على تغيير ذاته. الخوفُ من الاعتراف بالخطأ خوفٌ من التغيير.   تبدأ التربية بترسيخ الشعور لدى الطفل بحقِّه في الخطأ، مَنْ لا يعترف بأخطائه لا يتعلم، المجتمعُ الذي لا يتربى فيه الأفرادُ على الاعتراف بالخطأ منذ الطفولة، يشيعُ فيه الكذبُ والرياءُ والازدواجيةُ والنفاقُ السلوكي. 

‌‏ المنطقُ العلمي يفرضُ علينا أن نعترف بأخطائنا، ونعمل باستمرار على كشفها، كي نستطيعَ تقويمها ‏ومعالجتها. ‏لو كان السياسي يمتلكُ شجاعةَ الاعتراف بالخطأ ويعمل على معالجته لما انهارت بعضُ الدول ولما ضاعت بعضُ الأوطان، لو كان المثقفُ يمتلكُ شجاعةَ الاعتراف بالخطأ لما طغت النرجسيةُ والعجرفةُ والتملّقُ في كتاباتِ مَنْ يزعمون أنهم مثقفون، لو كان الزوجُ والزوجةُ والأبناءُ والأرحام يمتلكون شجاعةَ الاعتراف بالخطأ لما انهارت أسرٌ كثيرة، وتمزقت علاقاتُ رحمٍ قريبة، لو كان المعلمون والتلامذةُ يمتلكون شجاعةَ الاعتراف بالخطأ لما تقوّضت العملية التربوية في أوطاننا، لو كان الناس يمتلكون شجاعةَ الاعتراف بالخطأ لما شهد كثيرٌ من العلاقات الاجتماعية أزمات حادة، ولتراجع الكذبُ والنفاق والنميمة في علاقاتهم، ولعاش كثيرٌ من الناس بسلام.‏ ‏  من أخطاء التربية مصادرةُ حق الأبناء في الوقوع في الخطأ، وإشعارُهم وهم بهذا العمر أن الخطأ عاهة، وتخويفُهم من آثاره الوخيمة عليهم وتعنيفهم أحيانًا. التخويفُ والتعنيفُ يتراكمُ ويترسب بالتدريج في اللاشعور، فيكبّل تفكيرَهم، ويجعلهم مذعورين متردّدين في الإعلان عن أيّ سؤالٍ أو رأي. تربيةُ الطفلِ على أن لكلِّ إنسانٍ الحقَ بالخطأ ضرورةٌ تفرضها حمايةُ شخصيتِه من الانشطار إلى شخصيتين: باطنة لا تشبه الظاهرة، وظاهرة لا تشبه الباطنة.

 تنشدُ العمليةُ التربوية إيقاظَ عقل التلميذ، وتحريرَ وعيه من الأغلال المبكرة، وتحفيزَه على ابتكارِ الأسئلة، وطرحِها من دون وجلٍ مهما كانت، وتنميةَ قدرته على التفكير بكلِّ شيء. من الخطأ تربية الطفل على الخوف من الخطأ، ومن أسوأ الأخطاء توبيخُه وعقابُه على خطئه.                               تدجينُ الطفلِ على تحصيلِ اليقين السريع بلا حوار ونقد يقيّدُ عقلَه ويغلقُ تفكيرَه، ويُضعِف قدرةَ ذهنه على توليد الأسئلة الخلّاقة، ويجعله مولعًا بمحاكاة غيره واستنساخه. كلُّ محاكاةٍ تكرار، وكلُّ تفكيرٍ خلّاق اختلاف.   الطفلُ مكتشفٌ يقظ للعالَم، يتطلع لاكتشافِ كلِّ شيء، ينمو ويتسع وعيُه بنموِّ واتساعِ آفاق اكتشافاته. عندما يكتشفُ الطفلُ الخطأَ يكون قادرًا بالتدريج على اكتشاف ذاته وما يتصل بحياته. تبدأ اكتشافاتُه برصد أخطائه الصغيرة، وتتطور خبرتُه بالتدريج لرصد الأخطاء الكبيرة.

 الإنسانُ يتعلمُ بفعله وممارساته، ولا يتعلمُ عندما ينوب عنه غيرُه بالفعل والممارسة. المعلّمُ الناجح يوقظ عقلَ التلميذ، ويُرسِّخ إرادتَه وثقته بنفسه، كي يتصرف كما هو، ويربيه على الحذر من ممارسة التمويه والخداع وإخفاء شخصيته بأقنعةٍ زائفة.  مهمةُ المعلّم توسيعُ آفاق التفكير العقلاني للتلميذ وتنميتُه،‏ وتدريبُه على الحوار والنقد، كي يكتشفَ التلميذُ الأخطاءَ بنفسه، ‏ويهتدي إلى الصواب، ‏لا أن يقتاده المعلّمُ كأعمى، ‏لأن ذلك ينتهي إلى سباتِ عقله، ‌‏وعجزِه عن التفكير ‏النقدي، وتعطيلِ ملكة الإبداع لديه. المعلّمُ الناجح هو من يكتشف نوعَ موهبة تلميذه، ويحفّز الطاقاتِ العقليةَ والنفسيةَ والعاطفية المختبئةَ داخله، ويمكّنه من بنائها وتنميتها واستثمارها. ‏   يصعب غالبًا أن يتحرّرَ التفكيرُ من الخطأ من دون وقوعِ الإنسان فيه، وإدراكِه لنوع خطئه وكيفية وقوعه فيه، وشجاعته في الاعتراف به، وإرادته الحازمة بمعالجته وعبوره. نرجسيةُ الإنسان وغروره توهمه بالكمال، وتمنعه من إدراك خطئه، بل ربما تدعوه للتنكّر له مهما كان مفضوحًا.    لم تكفل القيم التقليدية السائدة في مجتمعنا حقَّ الكائن البشري في الخطأ. نرى بعضَ الناس يتعامل مع الخطأ الذي يرتكبه شخصٌ ما وكأنه فضيحة، وربما يتعرض مَنْ يقع في الخطأ أحيانًا للسخرية والتهكّم والازدراء، وربما تتحول بعض الأخطاء إلى اسم بديل يلصق بالإنسان، كما هو متعارف في بعض المناطق الشعبية، لذلك يرتبك أكثرُ الناس في مجتمعنا ويغمره الخجلُ والشعورُ بالعجز والخوف لو اعترف بخطئه.

 قلّما تتفهم التربيةُ في الأسرة والمجتمع الحقَّ في الخطأ وتتقبله. ولا تتضمن التربيةُ والتعليمُ في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا بمختلف مراحلها وأنواعها ما يغذي ثقة التلامذة بالنفس وغرس وتنمية شجاعتهم على الاعتراف بالخطأ بوصفه حقًا لهم. حريةُ ارتكاب الخطأ ضرورةٌ تربوية، كلُّ فلسفةٍ تربوية لا تعتمد حقَّ الوقوع في الخطأ كأحد ركائزها تولد ميتة. تربيةُ الناشئة على التخويف من الخطأ خطيئة، إنها أسوأُ أشكال تنميط الشخصية الذي يميت منابعَ الإبداع، ويصيّر الكائنَ البشري كأنه ممثلٌ على مسرح، تختفي ملامحُه الشخصية، ويظل مسكونًا باستعارة ملامح غيره.  أتحدثُ عن حقِّ الوقوع في الخطأ بوصفه مفردةً في عملية تربوية شاملة، مبنية على فلسفة للتربية تعتمد المكاسب الجديدة في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع. أما ‏في مجتمعنا فليست هناك فلسفة علمية حديثة للتربية، ‏هناك عادات وتقاليد وأعراف راسخة تعتمد التلقين والتكرار الممل، وهي على الضدّ من فلسفة التربية. ‏في مجتمعنا مؤسسات عريقة وعميقة، تمتلك سلطات متنوعة على عقول الناس وأرواحهم وضمائرهم وحياتهم، يهمها أن يلبثَ العقلُ نائمًا، يقظة العقل وصحوة الضمير الأخلاقي تهدّد سلطاتها وتقوّض مصالحها. في مثل هذا المجتمع لا يمكن انتزاع مفردة «الحق في الخطأ» من فلسفة التربية الحديثة، وتوريط الطفل المسكين فيها، لأنها تكون كما لو قطعت يد فتاة حسناء، وعرضتها للناس ‏وحدها، فيرى الناظر منظر العضو المبتور من الجسد بشعًا.

  التربيةُ لدينا تعتمدُ التلقينَ والتكرار الممل. التلقينُ المستمر يصنعُ قوالبَ ذهنية مغلقة راسخة، ويشلُّ العقلَ، ويعطِّلُ الضميرَ، ويطفئ الروحَ، ويميّتُ الإيمانَ الحرّ. بالتلقين والتكرار تتحولُ الأوهامُ إلى حقائق راسخة في المتخيّل. الحقيقةُ ما يحسبها الذهنُ حقيقية، وما تبدو له حقيقية، وإن لم تكن كذلك في الواقع. معظمُ الصراعات والحروب والمجازر البشرية سبّبتها أوهامٌ خلقها المتخيّل.  الحقُّ في الخطأ من ركائز الحق في الاختلاف، الحقُ في الاختلاف ركيزةٌ أساسيةٌ تقوم عليها التعدّديةُ وقبولُ التنوّع في المجتمع، وترسيخُ التفكير الحرّ. عندما نسلبُ هذا الحقَّ من الإنسان يتحول المجتمعُ إلى كائناتٍ متماثلةٍ متطابقةٍ، تفتقرُ إلى ملامحها الشخصية المتنوّعة والمختلفة، وتختفي صورةُ الفرد في مثل هذا المجتمع، ويصير الناسُ كأنهم روبوتاتٌ متشابهة، وهذا ما تتأسّس عليه وتفعله وترسّخه كلُّ الأنظمة الشمولية المستبدّة.  

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *