بغداد/ شبكة أخبار العراق- مثّل النص الإسلامي إطاراً مرجعياً عاماً للفكر العربي والإسلامي فكان له، من حيث هو نص، دور محوري في توجيه التطور اللاحق لذاك الفكر. وشكل النص (القرآن والسنّة) سلطة فكرية حكمت منذ البداية مجمل عملية الإنتاج المعرفي الإسلامي في العصرين الأول والوسيط، وحددت أبعاده المعرفية والمنهجية وهيمنت على توجهاته المتعددة.
لم ينطلق القرآن من فراغ سوسيوثقافي وتاريخي، بل يبني على ما سبق تصحيحاً وإغناءً وتطويراً: «وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَىٰ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» [يونس:37]، وإذا كان القرآن يقطع مع ما سبق، فإن هي إلا قطيعة نسبية، بمعنى النقلة النوعية من إطار معرفي إلى آخر. ولم تكن لغة القرآن غريبة دائماً عن المجتمع المكي، فما أن صدع به النبي (ص) حتى قالت العرب: «أساطير الأولين»، والأسطورة هنا من (سَطَرَ) أي صف ورتّب ونظّم، فهي الكلام المنظّم سطراً وراء سطر بحيث يسهل حفظه وتداوله ونقله، فالراجح أن المجتمع المكي كان منفتحاً على جملة معارف مختلفة مثلت محصلة لمختلف الديانات والمعتقدات التي كانت سائدة في شبه الجزيرة العربية، أو بقايا المعتقدات والديانات الشرقية التي طبعتها الحياة العربية الحضرية والبدوية بطابعها الخاص. وإذا كان الاعتقاد اليهودي ينظر الى الإصحاحات العشر الأولى من العهد القديم على أنها منزّلة أما الباقي فتاريخ، فالقرآن بكامله، وفق الاعتقاد الإسلامي، وحي مباشر من الله، على خلاف الأناجيل الأربعة لآباء الكنيسة والتي هي نوع من الوحي غير المباشر لهم. وفي الوقت الذي مثّل فيه القرآن امتداداً معرفياً لما سبق، فإنه يصادر على ما سيأتي حين يقدِّم نفسه على أنه الفصل الأخير في التاريخ الروحي للبشر، والذي تتحقق فيه المشيئة الإلهية، الكونية والاجتماعية: «…الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا… الآية» [المائدة:3]. وسيشكل «تمام الدعوة» حجر الزاوية للفكر الأصولي الإسلامي الذي سينظر إلى التاريخ البشري اللاحق للدعوة وإتمامها باعتباره انحرافاً عن الأصل، ينبغي تصحيحه بالعودة لمقاربة ذاك الأصل أو مطابقته.
ألحّ بعض المفسرين الذين تحلوا بحس تاريخي، بحدود قليلة أو كثيرة، على أسباب النزول واعتبارها عاملاً حاسماً في تفسير القرآن واستنباط الأحكام الشرعية، ولكن، بعد أن كانت الآية/الحكم تُشَرِّع عقب الحادثة المُشَرَّع لها، ستسير العملية باتجاه معاكس ليتقدم التشريع أو الحكم الحادثة المُشرَّع لها. سيتضح هذا التوجه عند «الأرأيتيون» أو أصحاب المدرسة الفقهية المعروفة بأهل الرأي، وكان من أبرزهم الإمام أبو حنيفة النعمان وعبد الله بن مسعود. واستطاع الفقه الحنفي تطوير نوع من الفقه الافتراضي ذي الصيغة: (أرايت لو أن… فما حكمه؟). تشترك السنة النبوية، من حيث كونها نصاً، مع القرآن في إشكالية القراءة، بل ربما انفردت أيضاً بإشكاليتها الخاصة المتمثلة بالتوثيق، وعلى رغم تطور علوم الحديث وتطوير منهجياته وأدواته لا سيما ما عرف بعلم الرواية وعلم الدراية، فإن ذلك لم يَحُلْ في خضم الصراع السياسي والأيديولوجي والفكري دون كثرة الأحاديث الموضوعة، ومع التضخم في الروايات يصح رأي غولدتسيهر في أن الحديث (الموضوع منه) ليس مصدراً تاريخياً لنشأة الدين بقدر ما هو وثيقة مهمة لتطور الإسلام اللاحق.ستبرز صيغتان فكريتان وأيديولوجيتان متعارضتان، أرادت الأولى أن تبقي العقل داخل دائرة النص والاعتقاد، ليكتفي بوظيفته التسويغية التأملية عبر الإلحاح على النص بوصفه ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، بينما حاولت الثانية تحرير العقل من تلك الوظيفة التسويغية ومنحه حركته الذاتية من حيث هو أداة تنتج معرفة بدل أن تفرض عليه حركته من خارجه، أي من دائرة النص والاعتقاد. على رغم إدعاءات كل فرقة أو مذهب أن قراءتها هي القراءة الوحيدة الممكنة، فإن ما أتاح لهذه التعددية الفكرية والإيديولوجية والمنهجية توغلها في الثقافة العربية الإسلامية هو غياب أي جهاز كهنوتي حقيقي يأخذ على عاتقه حسم الخلاف في العقائد الدينية والأحكام الشرعية، ويفرض بالتالي حلاً وحيداً كما هي الحال عموماً وغالباً في المسيحية، ولم يعترف الإسلام بتوجهه العام بأي وسيط بين الله والإنسان ولم يكن لأحد أن يدعي الاحتكار المطلق لتأويل القرآن والسنة.