علي حسن الفواز
أن تقرأ رواية ما يعني أنك تبحث عن المتعة أولا، وعن هواجس لاتدور إلّا في رأسك ثانيا، بحكم أن هذه الرواية – بقدر متعتها- تجلب للقارئ إحساسا متعاليا بوجودِ تاريخٍ ما، أو حكاياتٍ أو مواقف أراد الكاتب أن يقولها..وظيفة القارئ المتعة والكشف، ومهمة الكاتب هو التلذذ بشراهة خياله، وبحدوسه التي تسبغ على اللغة نوعا من السيمياء التعبيرية، والتي ستجر معها القارئ الى متون وهوامش وسرديات، قد لاتعنيه، لكنها تستفز فضوله..الكتابة لعبة ثقافية خالصة، والقراءة لعبة استمناءٍ داخلي يشتبك فيها الثقافي مع الاجتماعي مع اللذوي. هذه المقابلة تحتاج الى مقاربة نقدية/ ثقافية بوصفها جزءا من مادةِ درس النقد الثقافي، أكثر من كونها مادة أدبية خالصة..الغاية من الدرسِ الثقافي تتبدى في سياق ما يكشفه، ومايثيره، بوصفِ أن الكتابة تركيب، وأن القراءة تحليل، وأن الاحتفاء بالصيغ الثقافية تعتمد التركيب اولا بوصفها ستراتيجية للجمع والتأليف وخلق البنى، مثلما أنها تعتمد التحليل من منطلق استجلاب المتعة عبر تعدد الصيغ الثقافية، وعبر مقاربة كلِّ أنساقها المضمرة..
التاريخ والكتابة
التاريخ في الكتابة الثقافية ضروري، لأنه مادتها، مثلما هو الاجتماعي والسياسي، وأن التوصيف الثقافي للكتابة ليس بالضرورة أن يكون حصرا على مجال التخصص، أي الأدبي فقط، بل إن تمرسه في البحث عن المجاورات الثقافية، والأنساق المضمرة يكون هو جوهر الفعل في الدراسات الثقافية، وهو الذي يشكل تحديا للكاتب، وتزداد صعوبته كلما ازدادت جرعات كشوفاته الثقافية، وصار جزءا من منظومة متكاملة للتواصل والتفاعل والقبول والرفض، أي أنه يكون جزءا من مشروع الأنسنة التي تجعل المادة الثقافية فاعلة ومؤثرة وضرورية في حياتنا، وجزءا من الأنثربولوجيا التي تشتغل على التنوع والتعدد والاختلاف..
مفتاح الدراسات الثقافية اليوم يكمن في ما تقدمه الثقافة من مادة تتجاوز خيال الكاتب، أو توظفة بشكلٍ آخر، وأن تسهم في إنضاج ظروفه الاجتماعية والنفسية، وأن تجعل كتابته تتسم بقوة التأثير، فلم يعد الثقافي المكتوب عابرا، أو أن فعل الكتابة وسيلة لتزجية الوقت، بل أنها ممارسة فاعلة في الوعي، وفي الاستثارة، وفي تحسين فعل التواصل عبر تحسين فعل النص والصورة، وعبر أن يجعلها أكثر دينامية في مواجهة تحديات خطيرة، بما فيها تحديات التاريخ والهوية والصراع الأهلي والعولمة، فضلا عن امكانية أن يجعل تلك الكتابة أشبه بـ (الصفقة) مع بائعٍ يجب تحريضه على الشراء والاستهلاك..الدرس الثقافي للكتابة، وتحت هذا المعطى، يجب أن يكون موجودا داخل نصوص لها معنى، ولها تأثير، ولها قابلية على الاستفزاز، فالقارئ صار جزءا من منظومة الحياة وأنماطها الاستهلاكية، باحثا عن متع سهلة، ينظر للمائدة والمكتبة والتلفزيون وكأنها مطاعم للوجبات السريعة. لكن هذا لايعني قهر الخصوصية، أو اسقاط الفعل الثقافي في السهولة والهامشية، بل العناية تفترض الارتقاء بالمادة الثقافية بوصفها
قيمة وموضة في آن، والعناية بتحولاتها، ووضعها داخل سياق تتفاعل فيه نزعات التأمل مع نزعات الاستهلاك، ونزعات الفائدة مع نزعات الحفاظ على بعض تجريدات المعرفة، لاسيما تلك التي تتعلق بالفنون.. والوظيفة الفنية ليس بالضرورة أن تكون خارج الوظيفة الاجتماعية، لأن الفصل بينهما سيكون وهما، أو محاولة لاستيهام نرجسية أو غرور لم يعد لهما إلّا في حساب احترام فردية الكاتب وحرصه على صناعة وجوده عبر التميز وليس عبر الهروب أو التوهم..
الثقافي والجمالي
إن ماطرحه الفيلسوف كانط حول علاقة الثقافي والجمالي، والذي يرى فيه كمونا خالصا، يعزز الرأي القائل بضرورة توسيع فهم الثقافي ليكون شاملا، ولكي يكون أكثر انتظاما داخل المجالات الأدبية والأنثربولوجية والفلسفية، وحتى داخل القيم والمعتقدات على حدٍّ سواء، لأن الفصل بينهما سينعكس على هشاشة الوظيفة الثقافية في المجتمع وفي السياسة والفنون وفي الدين ونظام التعليم والعمران والموضة..وحتى حديث المنهج الذي يتحدث عنه البعض سيكون جزءا من هذه العلائق، ومن اشتغال مفاهيمها ونظام أسواقها وتبادل سلعها، فبقد ماتحدث أدرنو عن أهمية الصناعة الثقافية، فإن الأمر يتطلب بالضرورة تشغيل هذه الصناعة على أساس من الربحية، وليس تكريسها كسلع كاسدة أو خاسرة، وبما يجعل جدتها وحيويتها أكثر تمثلا لشروط الحياة ذاتها، مع حفاظها على درجة مخيالها الحيوي، وقوة استجابتها للوعي الثقافي وحساسياته وأسئلته…
القراء المدبرون
إن إبراز أهمية الدراسات الثقافية يضعنا أمام المزيد من الأسئلة حول الجدوى، وحول أهمية أن يكون للمواد الثقافية مستهلكون وقراء ومدربون واكاديميون ومصممون، لأن التغافل عن هذه الأهمية سيكون دافعا لتضخم البطالة الثقافية، وتكسيد بضاعتها المعرفية والجمالية وحتى التعليمية، مع اللجوء الى مايشبه الثقافات الشعبية المحشوة بالخرافات والأوهام على مستوى تداول الخطاب الديني أو الثقافي أو المعرفي، أو حتى الشعري، فكلما ضعفت وظيفة الثقافي الحقيقية برزت وظائف الثقافات الشعبوية، وضعفت فاعليات التخصص والتمنهج، وتحولت المؤسسات، بما فيها المؤسسات الجامعية ومراكز البحوث الى مجالات للاستهلاك العمومي وللتمويل الجماعاتي والعصابي والطائفي، فضلا عن ضعف تداول القيم الثقافية ذات المرجعيات الأدبية كالقصص والقصائد والروايات، لأن (مجتمع الثقافة) سيكون- عندئذ- مقهورا وخائفا وضعيفا وخاضعا لمرجعيات ايديولوجية وطائفية تنظر للثقافة بارتياب، وتخضعها لهرميةٍ من الصعبِ قلب رأسها.