آخر تحديث:
تعتبر الدعاية السياسية، من اهم الاساليب الاعلامية التي ميزت الدولة الايديولوجية في عصرنا الحديث. والدعاية السياسية كفن من فنون الترويج السياسي لفكرة او رأي او موقف او مذهب ما، قديمة قدم المجتمعات السياسية ذاتها، الا انها لم تكن متطورة ومعقدة ومؤثرة بالقدر الذي عرفت فيه في وقتنا الحالي، خاصة مع انتشار وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمرئية. واناقش هنا انموذج الدعاية السياسية، التي ترعرعت في العراق بعد الاحتلال الامريكي له، والتي تجاوزت كل التعريفات والنظريات والتطبيقات المألوفة في أي مكان في العالم، بسبب غياب قوانين منظمة لهذه الفوضى التي يعيشها العراق حاليا في المجالات السياسية والامنية.
ولكل دعاية سياسية في اي عصر ايديولوجي دعاة ومروجون وخطباء، ينتجون مفاهيم سياسية لايديولوجيتهم، ودعاية يتبنونها لنشر وترويج افكارها، حيث يتحدث الكثير من المروجين للدعاية الطائفية والمؤمنين بها في العراق عما يسمى بالواقع العراقي، مكونات الشعب العراقي، تقسيم العراق، الروافض، الوهابيين، التكفريين، الخوارج، البعثيين، المثلث السني، الجنوب الشيعي. ان هذه النعوت خاطئة علميا ولا تنطبق على المجتمع العراقي عند تحليلها ومحاولة تطبيقها واقعيا على افراد المجتمع، الذين يوصوفون به، سواء كانوا افرادا ام مناطق، اضافة الى ان هذه المسميات هي في هدفها السياسي الدعائي لايهام الاخر بانه ليس عراقيا، متناسين او يحاولون ان يتناسوا ان كل الشعوب في العالم لم تكن يوما متجانسة ديموغرافيا او ايديولوجيا، والامثلة على ذلك لا يمكن حصرها.
ان الواقع الطائفي والتمزق الذي يعيشة المجتمع العراقي الان، لم تكن له جذور حقيقية، رغم المغالطات الكثيرة التي يحاول البعض، بتحليلات ايحائية، ان يعكس عنها صورا غير منطقية.
ان الصراع العراقي الداخلي في حقيقية، صراع لقوى اقليمية، او احيانا، صراع طبقي وليس صراعا طائفيا، لكنه يأخذ تبريرات طائفية او صراع مصالح وتعدد سلطات غير متوافقه في ادارة البلاد، وهو ناتج عن خلخلة وضعف اركان الدولة العراقية ومجتمعها، نتيجة احتلال دمر مؤسسات الدولة العراقية وبنيتها الاجتماعية. ان القوى والاحزاب والتكتلات السياسية العراقية المعاقة فكريا واداريا، التي ظهرت بعد 2003 بدعايتها الطائفية ومؤسساتها الاعلامية، تروج للفكرة الايديولوجية المعتمدة على الطائفة، التي تحاول ان تصور ان الطرف الاخر هو العدو الاول، وبالتالي تسعى لبناء فكرة تقوية مجموعات ضيقة الافق على اساس اضعاف وتمزيق البنية الكلية للمجتمع العراقي.
وفي النظر لاساس الطائفية في العراق سنجدها ليست اجتماعية البنية او الاساس، وانما هناك بعض المؤمنين بهذه الافكار الضيقة من ذوي المصالح الاقيلمية، ولديهم امكانياتهم الاعلامية وخطابهم الذي يؤسس لدعاية سياسية طائفية، تبث رسائلها للمجتمع، وبالتالي تنمي هذه الافكار العقيمة وتفتت المجتمع وتحوله الى مكونات متناحرة.
ان للدعاية دورها في بناء مجتمعات جديدة وتفتيت مجتمعات قديمة وعريقة، فقد ظهرت الدعاية الصهيونية في وسط وشرق أوروبا في اواخر القرن التاسع عشر، واستقطبت اليهود للعودة الى ارض الآباء والأجداد ودعت لرفض اندماج اليهود في المجتمعات الاخرى، وبعد فترة طالب قادة الحركة بانشاء دولة منشودة في فلسطين، وبعدها ونتيجة لقوة هذه الدعاية وامكانياتها العالمية وقدرتها في التأثير، تم تأسيس دولة إسرائيل.
كذلك المانيا في الحرب العالمية الثانية كان غوبلز وزير الدعاية في حكومة هتلر، الذي روج للفكر النازي بقوة، واستطاع ان يسوق في ركابه عشرات الملايين من الألمان، ورغم العداء الغربي للنازية، إلا أن غوبلز يعد مؤسس مدرسة إعلامية مستقلة بذاتها، ويعرفة بعض علماء الاتصال بانه مؤسس فن الدعاية السياسية بلونها الرمادي، ومن هذين المثالين نجد ان العراق بوسائل الاعلام المملوكة لرجال وقادة الطوائف، يروجون ليلا ونهارا للافكار المفتتة للمجتمع، ولاقناع الجميع بانها واقع حال، وبالتالي فان النتيجة العلمية لهذه الدعايات السياسية الطائفية المتناحرة هو( التقسيم).
اسست في العراق اكثر من مئة وخمسين قناة مرئية منها الفضائية ومنها الارضية، وان عددا كبيرا من هذه القنوات تمتلك اجندات طائفية بحتة، ومعظمها ممول من احزاب وجماعات ذات فكر طائفي، وتبث هذه القنوات رسائلها للجمهور العراقي وتحاول تحشيده بشكل طائفي، وبالتالي تكوين رأي عام طائفي، فضلا عن ان معظم المناسبات الدينية لكل الطوائف بدأت تنحرف عن مضمونها الديني وتتحول الى عملية تحشيد جماهيري على اساس طائفي، لايصال رسائل معينة للطرف الاخر. وبذلك تحولت هذه المناسبات الى وسيلة اضافية من وسائل الترويج للدعاية السياسية الطائفية في العراق.
في المقابل لا توجد قوى وطنية قادرة على المواجهة، حيث لا توجد قدرات مالية ولا يوجد دعم لبناء وسائل اعلام وطنية جامعة، وان انتشار الكم الكبير للقنوات ذات الرسالة الطائفية اضاع اي جهد اعلامي وطني لضعف وهشاشة القدرات الاعلامية.
وفي مراجعة لاستطلاعات الرأي العام، التي اجريت في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، نجد ان الرأي العام العراقي تأثر تأثرا كبيرا بالدعاية الطائفية التي اوجدتها الاحزاب التي ظهرت بعد السقوط، حيث اصطف العراقيون خلف طوائفهم في معظم الاراء السياسية، ولكننا تدريجيا بدأنا نلاحظ ان الرأي العراقي بدأ يتغير، وأول تحول كان المفاجأة المباغتة بفوز الزعيم العلماني الشيعي اياد علاوي باغلبية السنة وبعض الشيعة، الامر الذي خالف معظم التوقعات الدولية والاقليمية. فضلا عن ذلك نلاحظ اندحار الدعاية السياسية الطائفية كليا وبداية تلاشيها، رغم عظمة اجهزتها وقدرتها وضعف الطرف المقابل، ففي مراجعة علمية للنتائج الاخيرة لانتخابات مجالس المحافظات، التي اجريت هذا العام 2013 نجد ان اكثر من 70 بالمئة من العراقيين لم يشاركوا في الانتخابات، حيث كانوا مترددين او رافضين للافكار الطائفية، اضافة الى ان نسبة الاربعين بالمئة التي شاركت انقسمت الى نصفين، النصف الاول صوت الى 73 كيانا سياسيا جديدا، في حين ان النصف الثاني صوت للاحزاب الطائفية التقليدية والليبرالية ايضا، اي ان الاحزاب ذات الايديولوجية الطائفية بكل امكانيتها ودعايتها الطائفية لم تتمكن من الحصول على نسبة تصل الى 15 بالمئة تقريبا من العراقيين المؤهلين للانتخابات، وهذا يدلل على تراجع تأييد الرأي العام العراقي لهذا النوع من الدعاية وفشلها في استمرارها في التأثيرعلى المجتمع العراقي. واذا ما قارنا بين العراق ومصر كحالة رأي عام ودعاية سياسية، لوجدنا ان الرأي العام في مصر كان منقسما باتجاهين، الاول مع الدعاية الخاصة بالاخوان المسلمين والنصف الثاني مع الاتجاة الوطني او المدني، ورغم ذلك فان الجيش كمؤسسة مستقلة وقف الى الجانب المدني، لان الجانب الاول تجاوز الخطوط الوطنية الحمراء في ادارة البلاد. اما في العراق فان نتائج الانتخابات تبين ان الرأي العام العراقي باغلبيته اصبح ضد السلطة الحاكمم بمختلف اتجاهاتها السياسية.
لقد تمت هيكلة العراق كدولة، سياسيا واجتماعيا، وتمت اعادة بنائه على اسس وولاءات ضيقة تجعله رهينة لصراعات داخلية مستمرة، وفي هذا الصدد، اود التأكيد على نظرية امريكية حديثة من نظريات علم الاجتماع التي تقول ‘انه لا يمكن لاي بلد يعاني من الصراعات السياسية والاجتماعية ان يتقدم’، وهذا ينطبق على وضع العراق الحالي، حيث ان عشر سنوات من السجالات السياسية والاجتماعية مع ميزانيات مالية ضخمة، تصل احداها الى مئة وسبعين مليون دولار، كفيلة بخلق بلدان متقدمة تقدما مبهرا، الا ان العراق لا زال تاسع افشل دولة في العالم حسب تقرير الفورن بولسي، ومن اكثر الدول فسادا، على مستوى العالم حسب تقارير الشفافية الدولية. في حين ان دولا بنيت بعشر وعشرين سنة كتركيا الحديثة وماليزيا الذي قفز اقتصادها وتحولت الى مصاف الدول المتقدمة في عشرين سنة.
سيبقى العراق يعاني من الصراعات والجهل والتراجع مهما زادت ميزانياته، لان الدعايات السياسية التي تقصف عقول الجماهير العراقية هي دعايات مفرقة للمجتمع، وضيقة الافق وتدعوه للتحارب.
في المقابل لا توجد قوى وطنية قادرة على المواجهة، حيث لا توجد قدرات مالية ولا يوجد دعم لبناء وسائل اعلام وطنية جامعة، وان انتشار الكم الكبير للقنوات ذات الرسالة الطائفية اضاع اي جهد اعلامي وطني لضعف وهشاشة القدرات الاعلامية.
وفي مراجعة لاستطلاعات الرأي العام، التي اجريت في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، نجد ان الرأي العام العراقي تأثر تأثرا كبيرا بالدعاية الطائفية التي اوجدتها الاحزاب التي ظهرت بعد السقوط، حيث اصطف العراقيون خلف طوائفهم في معظم الاراء السياسية، ولكننا تدريجيا بدأنا نلاحظ ان الرأي العراقي بدأ يتغير، وأول تحول كان المفاجأة المباغتة بفوز الزعيم العلماني الشيعي اياد علاوي باغلبية السنة وبعض الشيعة، الامر الذي خالف معظم التوقعات الدولية والاقليمية. فضلا عن ذلك نلاحظ اندحار الدعاية السياسية الطائفية كليا وبداية تلاشيها، رغم عظمة اجهزتها وقدرتها وضعف الطرف المقابل، ففي مراجعة علمية للنتائج الاخيرة لانتخابات مجالس المحافظات، التي اجريت هذا العام 2013 نجد ان اكثر من 70 بالمئة من العراقيين لم يشاركوا في الانتخابات، حيث كانوا مترددين او رافضين للافكار الطائفية، اضافة الى ان نسبة الاربعين بالمئة التي شاركت انقسمت الى نصفين، النصف الاول صوت الى 73 كيانا سياسيا جديدا، في حين ان النصف الثاني صوت للاحزاب الطائفية التقليدية والليبرالية ايضا، اي ان الاحزاب ذات الايديولوجية الطائفية بكل امكانيتها ودعايتها الطائفية لم تتمكن من الحصول على نسبة تصل الى 15 بالمئة تقريبا من العراقيين المؤهلين للانتخابات، وهذا يدلل على تراجع تأييد الرأي العام العراقي لهذا النوع من الدعاية وفشلها في استمرارها في التأثيرعلى المجتمع العراقي. واذا ما قارنا بين العراق ومصر كحالة رأي عام ودعاية سياسية، لوجدنا ان الرأي العام في مصر كان منقسما باتجاهين، الاول مع الدعاية الخاصة بالاخوان المسلمين والنصف الثاني مع الاتجاة الوطني او المدني، ورغم ذلك فان الجيش كمؤسسة مستقلة وقف الى الجانب المدني، لان الجانب الاول تجاوز الخطوط الوطنية الحمراء في ادارة البلاد. اما في العراق فان نتائج الانتخابات تبين ان الرأي العام العراقي باغلبيته اصبح ضد السلطة الحاكمم بمختلف اتجاهاتها السياسية.
لقد تمت هيكلة العراق كدولة، سياسيا واجتماعيا، وتمت اعادة بنائه على اسس وولاءات ضيقة تجعله رهينة لصراعات داخلية مستمرة، وفي هذا الصدد، اود التأكيد على نظرية امريكية حديثة من نظريات علم الاجتماع التي تقول ‘انه لا يمكن لاي بلد يعاني من الصراعات السياسية والاجتماعية ان يتقدم’، وهذا ينطبق على وضع العراق الحالي، حيث ان عشر سنوات من السجالات السياسية والاجتماعية مع ميزانيات مالية ضخمة، تصل احداها الى مئة وسبعين مليون دولار، كفيلة بخلق بلدان متقدمة تقدما مبهرا، الا ان العراق لا زال تاسع افشل دولة في العالم حسب تقرير الفورن بولسي، ومن اكثر الدول فسادا، على مستوى العالم حسب تقارير الشفافية الدولية. في حين ان دولا بنيت بعشر وعشرين سنة كتركيا الحديثة وماليزيا الذي قفز اقتصادها وتحولت الى مصاف الدول المتقدمة في عشرين سنة.
سيبقى العراق يعاني من الصراعات والجهل والتراجع مهما زادت ميزانياته، لان الدعايات السياسية التي تقصف عقول الجماهير العراقية هي دعايات مفرقة للمجتمع، وضيقة الافق وتدعوه للتحارب.
في هذا السياق الاعلامي يقول نعوم تشومسكي الكاتب الامريكي الكبير في كتابه ‘هيمنة الاعلام الانجازات المذهلة للدعاية’: ‘الدعاية التي تتم بإشراف الدولة حينما تدعمها الطبقات المتعلمة وحين لا يسمح بأي انحراف عن الهدف، بإمكانها أن تحدث اثراً كبيراً. ذلك كان درساً تعلمه هتلر وكثيرون غيره، ويتم اتباعه حتى اليوم’. لذا فاننا يمكن ان نرى بروز دعاية سياسية عراقية تغذيها قوى سياسية تمتلك سلطة ومالا وقدرة على التوجيه وتستخدم هذه القوى وسائل اتصال مختلفة ابتداء من التلفزيون ووسائل الاعلام الحديثة والانترنت والفيسبوك، وكذلك الوسائل التقليدية التي تؤثر بشكل اشد واقسى، كالمؤتمرات والخطابات السياسية المتشنجة التي تزكم العراقيين وتقصف عقولهم بافكار عدائية، تجعلهم حائرين في امرهم.
ففي دراسة لتحليل مضمون خطب بعض الساسة العراقيين اكدت ان الجميع يحذر جمهوره من العدو الداخلي الاخر، بمسميات مختلفة للطائفة الاخرى، وبالتالي اصبحت هناك مسميات معروفة ومتداولة للتعريف بالطائفة الاخرى، فضلا عن ان هذه الخطب تدعم الهجوم على الاخر بصيغ تحريضية تارة وتخويفية تارة اخرى، وتعتبر الاخر غريبا عن المجتمع ومسلوخا عنه.
من خلال ما تقدم نستنتج ان هذه الدعايات تسعى لهدف مركزي هو تفتيت الدولة العراقية الحديثة ومجتمعها المتماسك، وقد نجحت في بدايتها الا انها اضمحلت وتراجعت رغم قدراتها ومؤهلاتها وهي في بداية اندحارها.
استاذ جامعي عراقي