بغداد/شبكة اخبار العراق- أحياناً يتبادر إلى أذهان الكثير من الشعراء والنقاد تساؤل مهم، وهو: ما الذي في يوجد في نصوص مثل امرئ القيس وطرفة بن العبد والمتنبي وبشار بن برد وابن الفارض والسياب وأدونيس ومحمود درويش وغيرهم الكثير باقية حتى الآن، نصوص يعاد قراءتها كل مرّة وكأنها كتبت الآن، فهي خارج الزمان والمكان معاً، تعيش مهما عاشت القراءة، ومهما تطورت أساليب الكتابة وتغيّرت.. ربما الأمر لا يختلف مع الفنون الأخرى، في الغناء والسينما والتشكيل والرقص وفنون من الصعب إحصاؤها.. ربما لا يجد هؤلاء القرّاء جواباً واحداً على هذا التساؤل، وهو أن الفن العظيم لا يتغير مع تغير الزمن، فهو مقاوم لكل الموجات والسياسات والتحولات الاجتماعية.. فهل كانت نصوص بدر شاكر السياب الذي رحل في 24 كانون الأول من العام 1964 تنحى في العمق الإنساني من دون أن تتأثر بعوارض الزمن؟ وما الذي تبقّى من هذه النصوص بعد التحوّلات الكثيرة التي طرأت على الفنون الإبداعية عموماً، وعلى الشعر تحديداً؟
السيّاب معاصرنا يناقش الكاتب علي عبد الأمير فكرة تعارض الأيديولوجيات من خلال السياب قائلاً إنه إذا كان عصرنا هو عصر انهيار الايديولوجيات الكبرى، وتحديداً تلك التي تدّعي أنها تمثل خلاصات المسار البشري، فإن الشاعر بدر شاكر السياب أول من رفض تلك الآيديولوجيات، ليقدم شعراً يتعارض معها جوهرياً، ويقدم الإنسان أولاً، مستعيناً بالخلاص الروحي على العالم المادي القوي الذي كانت تنشده تلك الأفكار واليسارية منها على وجه الخصوص، ليستمد فكرة الخلاص، من «يسوعه» الشخصي، من معايشته لـ»جلجامش» ومصاحبته لـ»يوليسيس» في ضياعه. ويضيف عبد الأمير أنه إذا كان عصرنا هو عصر التجريب في اللغة والتناسق الداخلي والخارجي مع المفهوم الفكري، فإن السياب هو مشروع التحديث الجريء للغة الشعر، وليس غريباً أن الشعر العربي الحديث قد ولد معه. وإذا كان عصرنا هو عصر الاغتراب والغربة والنفي والهجرات، فلا شاعر، بل لا مفكر قرأ العصر مبكراً مثلما كانت الغربة المبكرة تفيض في صاحب «غريب على الخليج» شعراً وفكراً وإنساناً. ويرى عبد الأمير أن ميزة السياب- وهنا سر تفوقه- كونه شاعراً يحلم بإفراط خارج انضواءات حياته، فالسفر من قريته إلى بغداد ومنها إلى العواصم القريبة، كان يرى فيه رحيل البطل الأسطوري واغترابه في الأمكنة. فإذا كان عصرنا عصر التلاقح الفكري والاتصال المعرفي والروحي، فإن قصائد السياب تظهر مثاقفة حية مع شعر أديث ستويل وإليوت، والشعر الانجليزي بعامة. وإذا كان عصرنا هو عصر صدام المعرفة الإنسانية المتحضرة بالاصوليات، فإن شعر السياب كان نقيضاً مبكراً للأصوليات الدينية والاجتماعية. من هنا، يمكن لنا أن نقرأ فاعلية ما أحدثه السياب… نعم، إنه معاصرنا.
البسالة الإبداعية يحسب الكاتب عمار المرواتي أن أي رأي سيحدد ما تبقى من السياب سيكون خطأً فادحاً من قائله، فالسياب لم يكن ظاهرة، ولم يكن تقليعة من التقليعات التي يقدم عليها أنصاف المثقفين أو الموهوبين لإثبات وجود حتى وإن كان لأيام!! فالتقليعات تتوهج وتنطفئ وربما يكون منطقياً السؤال عمّا تبقى منها.، فـ»أنا أرى أو أنا مع كل من يرى بأن السياب كان حاجة ثقافية/ حضارية معاً أملتها طبيعة التبدلات الفكرية العالمية التي عصفت بالمنطقة كما عصفت بالعالم كله. ولكن إذا كان لابد من طرح وجهة نظر في مظهر من مظاهر السياب الأكثر اتضاحاً والأعمق بقاءً؛ فأرى من الضروري التنبيه إلى القوة المحركة في إبداع بدر شاكر السياب، فالسياب يتمتع بما يمكن أن أسميه( البسالة الإبداعية) تلك القوة الكامنة في نفس أديب يثق في نفسه، ويعرف أين يقف، مثل معرفته بـ)إلى أين هو ذاهب)». مضيفاً أن البسالة هذه لا تتوافر إلا لأديب تتوازى فيه قوة الثقافة، وعظمة الموهبة، فضلاً عن فرادات التكوين النفسي والاجتماعي، فتناغم هذه المواصفات يولد هذه البسالة المتضمنة للشجاعة والجرأة واتضاح الهدف، فليس من السهل التمرد على قوة مهيمنة هي قوة الشكل الأدبي، فكيف الحال والشعر العربي العمودي الذي يصل عند عدد من مريديه حد التقديس؟! يبقى السياب رمزاً راسخاً من هذه الزاوية وربما هي الزاوية المنفرجة الأكبر في تاريخ شاعر وعى وهضم وأضاف ففتح الأفق الأوسع لانطلاق الشعر وتطويعه ليكون ابن واقعه.. أي ليكون انعكاساً فاعلاً ومتفاعلاً بوصفه فعلاً مهماً في حركة التاريخ.
هاجس التخطي وبحسب الشاعر رعد زامل فإن السياب سيظل يمثل منطقة انجذاب لكل الشعراء، لاسيما الشباب منهم، فالتجربة السيابية خصوصاً في مرحلتها الرومانسية تشكل معيناً عذباً لا ينضب. لهذا، وبحكم تنوع تجربته: الرومانسي فالواقعي فالتموزي ثم الذاتي المبتلى بروحه وجسده العليلين، سيظل درساً مهماً على صعيد التجربة الإنسانية كما يصنفها ناجي علوش وهو يقدم ديوانه الشعري في مجلده الأول. وبالنتيجة فإن أنينه وعذاباته وشكواه وطفولته وحرمانه هي كل ما ترسب في ذاكرتنا. الآن كيف نقرأ السياب؟ يعتقد زامل أنه ينبغي لنا أن نتوقف عند السياب بوصفه الماضي الذي ثار على ماضيه وتراثه الشعر، نتوقف عنده لكي نستبق الزمن ونثور على حاضرنا القاتم. نتوقف عنده لكي نمنح القصيدة مساراً آخر وأفقاً أوسع. سنمر على السياب بحسه الإنساني العميق دائما مثلما نمر على طاغور وغوته ويسينين، فهو معلم حي من معالم شعرنا العالمي. وعلينا معاينة نصوصه بسياقها التاريخي والفني، فالشعر مسكون دائماً بهاجس التخطي والاستباق والكشف والمغايرة، كما لا ننسى أن السياب واحد من أهم ينابيع معرفتنا الشعرية في محطاتنا الأولى.
الخروج من النسق في كل مرة، عندما نكون عند مفترق طريق شعري حداثي تجديدي نستدعي السياب ليجيبنا، كما يؤكّد الشاعر مازن المعموري، الذي يرى أن السياب هو الوحيد الذي عرف من أين يدخل الشعر إلى الناس ، فقد نظر إلى مجتمعه وواقعه وتحدث عن آلامه بشكل صادق وكبير، «يبقى الدرس الذي طالما رجعت اليه وتعلمت منه كيف أنظر الى مكاني وهويتي وثقافتي». لكننا اليوم ونحن نعيش متغيرات كبرى،لا يمكن الوقوف عند لحظة السياب إلا في حدود مكونات العصر الثقافية، بما أن وسائل التواصل والتثاقف قد أصبحت سيدة الموقف، فإن ظلال السياب ما زالت تحوم حول قيمة الإنسان العراقي أمام نفسه أولاً، وأمام الآخر المختلف، فما زلنا نعيش ذات المأساة الذاتية للشاعر وإن اختلفت الأدوات،إذ ما زلنا حبيسي الأمكنة والمدن العراقية بالفاعلية التدميرية للذات نفسها(التذمر/ جلد الذات/ كراهة الآخر)، هذه المحاور ما زال توجه الشاعر العراقي لأكثر من خمسين سنة مضت، والسياب هو الوحيد الذي خرج من إسار الأنساق العراقية وقدّم لنا أنموذجاً للتعبير الشعري لا يمكن تفاديه إلا في المرور به والتفاعل معه، وهكذا يكون علينا دائماً النظر إلى السياب على أنه البوابة التي تحمي عصر الحداثة من الموت.