في روايته آلام السيد معروف( ) , يشيد الكاتب الكبير غائب طعمة فرمان صرحا نفسيا من هذيان أدبي قائم على اسقاطات انسانية واجتماعية لها قيمة خاصة في تشكيل الجوهر الفني للصوغ الروائي .. سنحاول التوقف عند نوعين منها : 1 ـ التشيؤ الاجتماعي لو عدنا الى بعض الصفحات التي تضع ماديات القول بصف تذويبي مع استعارات اللغة , لتمكنا من وضع ما يشبه المعاقد البؤرية لرؤى اجتماعية من نوع خاص .. لنجرب: [ومن فرط ما كان يفيض في داخل السيد معروف من رقة وعذوبة وملائكية خيل إليه ان التضاريس على وجه الاستاذ عبد الرحيم قد تثلمت , ألعله يبتسم , في داخله , لخفة روحه؟ ـ ماذا رأيتَ البارحة ؟ ـ ابتسامة حلوة , وعينين حدوبتين . ـ هي التي لعبت بعقلك وحولت تفكيرك؟]( ). يفهم من المقطع , ومن تصفح بقية مشاهد الرواية , ان شخصية عبد الرحيم هي شخصية الرهاب المهيمن على الطبيعة النفسية المركبة من نواقص اجتماعية واقتصادية , وهي الكابح الرازح على كل نفس للسيد معروف .. الضالة الاساسية من البحث في تركيب مثل هذه الشخصيات هي ارسال مبعث للوصول الى شيئيات اجتماعية , هي هنا , متصفات حركية , وهي ذات زمن متمدد في الذوات النفسية للشخوص , لا يظهر منها شيء إلا نادراً , كما انها شيئيات مؤثثة لفعل متغير بشكله وغايته . *الشخوص: نوعان محكوم ومتحكم , مُسَيّطِر ومُسَيطَر علية , متحدث بحرية ومهمهم باضطراب. * الوجود : دائرة ودوام , واوامر وظيفة ادارية. * الغايات : السيد معروف يطفح به حب الشمس والاستاذ عبد الرحيم يطفح به الكره والازدراء والاستعلاء . السيد معروف يريد ان يطوع الاشياء الاجتماعية لتصير جنة تسامح وتخاطب متعادل بين الطبيعة والبشر , بينما يطمع الاستاذ عبد الرحيم بكتابة مقالة مذيلة باسمه ومنجزة بقلم السيد معروف ليعطيها الى المدير العام او معاون المدير العام . * تذاوب : تذوب الاشياء الاجتماعية عبر التحاور غير المتكافئ , وتتخالف وجهات النظر بحسب طبيعة التخالف الرتبي والنفسي , فضلا عن ان المؤثثات الاجتماعية فردية السلوك لكنها اجتماعية التمثيل . وفي الهدف الفني يذوب المهيمن الاجتماعي لصالح المبأر من الافعال , اي ان السيد معروف اعلى شأنا (فنيا) من الاستاذ عبد الرحيم . وهو (رمزيا) الاعلى قيمة اجتماعية , بمنظار المستقبل الثوري للطلائع الانسانية. إذاً التذاوب الفني أعاد التوازن الاجتماعي الى البيئة الانسانية العادلة , وهذه غاية الفنون الانسانية كلها . 2 ـ سجع المهمشين صار من الشائع في الدراسات والمتابعات اليوم ان يقال بأن ذاتية غائب طعمة فرمان تستحصل من تحولات السلوك الفني والنفسي والايديولوجي . لكنما تلك ليست مسلمات اذا ما أحلنا بعض اعماله , كرواية آلام السيد معروف , الى منظومة الهذيان الفني بعيدا عن المتجهات الثلاثة آنفة الذكر , بمعنى أن الهذيانات اللغوية ميزت السرد ودمغته بطابع الانتماء الطبقي ليتماثل مع البيئة المخلقة للهوامش الاجتماعية عبر مدركات بثلاث هي (التراثية , الشعبية , الغمغمة الحروفية). أ ـ لغة الهوامش المضطربة * لغة الهذيان التراثي : وقد اتكأت على التراث العربي الوسيط والقرآن والحكايا الشعبية , وكلها منحرفة عن الاصل . مثالها : *[ ولكم في الغروب حياة يأولي الألباب . ـ رواية آلام السيد معروف ص7] ـ النص استثمار قرآني محرف . *[ طنجة , سبتة , سرقسطة , باجة , ويبحرون فرارا من الليل . البحر من ورائكم والعدو أمامكم , وليس لكم والله الا الصدق والصبر , في شبه جزيرة الاندلس , المليئة بالحور الحسان ,من بنات اليونان , الافلات بالدر والمرجان . الله ينصر السلطان . رواية آلام السيد معروف , ص30] ـ النص يستثمر التراث الوسيط والحكاية والتراث الشعبي الحديث واغنيات الاطفال في خليط هذياني كخصيصة نفسية واجتماعية ذاتية وعامة. * لغة التسريد الشعبي : وفيها تأخذ اللغة من الطاقة التعبيرية للروحية الشعبية قدراتها المؤشرة لحالات الظلم البشري . مثالها : [لأول مرة , يرى في الليل وجهه في مرآة العتيقة المحكوكة الحواف , وصار يردد مع نفسه لست اعورا , ولا احول , ولا اقرع , ولا احلج , ولا اشدق , ولا أشرم , ولا افطس, ولا فاسد الاسنان , ودع الرقبة جانبا . ـ رواية آلام السيد معروف , ص23] ـ تُستثمر هنا طاقة الروح الشعبية الساخرة الفكهة المبهجة فنينا . لغة الغمغمة الحروفية : ولا أقصد بها تقطيعات الفونيم الصوتي لحرف الغين انما اقصدها مصطلحا معوضا عن التقطيعات الحروفية التي يبث البطل بها , وعبرها , همومه وامراضه واضطرابه النفسي واهتزاز مكانته الاجتماعية . مثالها : [أششه باردة تنتهض الرعدة في ظُهيري من لدن الظهر الى العُصير .. برد.. باردة . دثروني وين البطانية وقعت في مصيبة , ستين مصيبة لطول العمر مستمسك وتعال يا حمار وخلص نفسك من هذه الوحلة لطول العمر , أشه باردة دثروني .. عن اذنك استاذ رحيم باردة اسمح لي أشه باردة وين البطانية , يبرد لي تجي لك الطلايب وانت نايم طركاعة طرررررركاعة طار وقع طرت وقعت طركاعة طيرة خفيفة وثقيلة … رقبتي طويلة تتحمل طراقيع الدنيا طرقاعة .. طر .. طر .. يا ريتني طير , وأطير حواليك . ـ رواية آلام السيد معروف , ص46] * تكررت مثل هذه الاستثمارات الحروفية كثيرا لكنها انقطعت عند الصفحة 98 دون مبرر ظاهري , ولعل التبرير المنطقي يقع في خمسة مبررات هي : ـ فقدان روح الطرافة بالتكرار . ـ توالي الاحداث المتسارعة مما لا يعطي مجالا او انتباها لمثل تلك الألفاظ . ـ وصول وعي البطل الى مرحلة النضج بالتخلص من الاضطراب النفسي وتفتت عقدة الخوف بالوعي الثقافي. ب ـ اسلوبية التسفيه السجعي التسفيه حالة نفسية لغوية , وهي تفكه خلّاق في الادب , وعند فرمان , هو حالات قيمية , منها ما يخص تأثيث المقول , ومنها ما يسفه السجع ذاته , كما أنها تنتمي الى مثيلاتها من اصناف السخرية والتقطيع الحروفي والتمرير الفلسفي للإضطراب النفسي .. فضلا عن ذلك فالتسفيه السجعي يدخل ضمن توليفية الروي . مثالها : ـ السجع المؤثث للقول : [فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع , سم في المعدة … سم في الفكر , سم حتى مطلع الفجر. ـ رواية آلام السيد معروف , ص75] ـ سجع مسفه السجع : [انا … عفت جميع الاطباء , وطرقت بابه! وافق شن طبقه , تحب رجلي الفلقة , والليل يغزو ملقه , ويكفن شاطيء قلبي بالذنوب , وفي الماء عيون الذئاب , وفي المعدة شفرة سكين , وفي القلب لوعة وحنين . ـ رواية آلام السيد معروف , ص89] ـ سجع توليف الروي : [لماذا قرأت الكتب , وصاحبت موسى بن نصير وطارق بن زياد والجاحظ في رسائله , ومحاسنه واضداده … وعرفت منه فخر السودان على البيضان , والجواري على الغلمان . ـ رواية آلام اليد معروف , ص91] يلاحظ على التجربة السجعية هذه وجود بعض من خصوصيات الاستعمال اللغوي ,منها/ 1 ـ تسهيل مهمة فهم غايات التسفيه عبر اللغة القريبة من الشعر الذي يعدُّ من الفنون ذوات الجمهور المهيأ للتقبل سلفا . 2 ـ من طرافة التسجيع انه يذكر بالحكايات التراثية التي تبدأ بمسجوعة افتتاحية (كان ياما كان في قديم العهد والزمان) .. وفيه ربط معنوي مقصود ليتواصل القديم مع الحديث مع الفني . 3 ـ التسجيع مع التقطيع الحروفي , مع السخرية الفكهة , مع تقزيم الصُغار , يمثل قولاً لتجربة فنية لها قوة ايحائية وقدرة حيوية تقرر ـ أحيانا ـ الموجهات النقدية نحو امتحان جدوى آلياتها , وتجدد فيها طاقة كسر التقييد المنهجي الصارم . 4 ـ التسفيه السجعي ميزة مكملة للاضطراب الذي يصل بين عتمة الرؤية ووضوحها الجمالي والقيمي.