السيرة بين الشخصية والمكان

السيرة بين الشخصية والمكان
آخر تحديث:

جاسم عاصي
الميّزة التي يتصف بها أدب الرحلات ، هي كوّنه يجمع بين سيرة الشخصية وسيرة المكان، فهو أدب مكاني بامتياز . وهذا يسحبنا بطبيعة الحال إلى نص التجربة والممارسة المباشرة والحيّة . فرحلة كل من (مالوان وأجاثا كرستي، ناجي الساعاتي محمد شمسي، ثيسغر، وارد بدر السالم) وغيرهم تميّزت في كوّنها حققت ريادة في كشف خصائص الأمكنة التي دخلوها، عاكسين كل ما يتعلق ضمن وجوده الأنثروبولوجي من عادات وتقاليد وطقوس وتاريخ. وبهذا تحققت الفائدة والمتعة معاً. وهنا لابد من الإشادة بجهود لجنة ( اجي الساعاتي) في إقامة مسابقة سنوية لأدب الرحلات ، حققت خلالها جملة كتب بهذا الشأن طُبع بعضها وكتاب (باسم فرات) إحدى ثمراتها.
والشاعر  باسم فرات قدم ما بوسعه إثر رحلاته المستمرة في بقاع الأرض ، ومن متحققاته كتاب( مسافر مقيم) وقد وجدنا فيه ؛ كتاباً جامعاً ، فيه من اكتشاف سحرية المكان ( هوروشيما) والمدن اليابانية خير ما قدم لنا من فتنة ودهشة الاكتشاف له ولنا ، لقد استفاد الكاتب من تجربته الأولى في هذا الجنس الأدبي خلال ما طرحه في كتابه الثاني ( الحلم البوليفاري/ رحلة كولومبيا الكبرى) ، الذي وجدنا فيه عمقاً في التجربة والمعايشة ، فقد ضم حراكاً صعباً ، كان فيه الكاتب أكثر مجازفة في الدخول إلى المجهول المعلوم ، الأمكنة المحفوفة بالمخاطر ، بسبب في كوّنها مأهولة بالحيوانات المفترسة ، والنباتات السامة والمشتبكة، وما تحتويه من كثافة الأشجار والأدغال والأعشاب البرية المتلازمة، والتي تسد الطريق أمام فريقه المتكوّن منه والدليل . لكنه في كثير من المواقع وجدناه يُغامر للوصول إلى ما يصبو إليه من اكتشاف. فلم يلتزم بتحذيرات الدليل. والسبب في هذا انه يمتلك حساسية مفرطة إزاء الأمكنة ، ولأنه شاعر تميّز بالرهافة وسحر الكلمة . 
لذا وجدناه يبحث بين طيات المجهول ما يرفد رؤاه الشعرية. فالشعر بطبيعة الحال حالة تُرقى على سحر الأشياء ومنها الأمكنة، فهي جاذبة لأدق المتطلبات الشعرية . إنه وكما نرى يعمل على إغناء تجربته الشعرية عبر إغناء رؤاه الحياتية . وهذا ما قام به مثلاً (جيمس فريزر) في (الغصن الذهبي). فالمتحقق نتيجة الرحلة أن تتسع الرؤى، وتغتني النصوص جرّاء غنى الواقع المعاش . فالأدب تجربة حسب قول (أرنست همنغواي… الحقيقي مصنوع من التجربة والمعرفة) . 
لذا نجد في جُهد (باسم فرات) إضافة نوعية لشعره وحياته الأدبية. فمعارفة تتراكم، وحسه الشعري والأدبي بشكل عام يتركز وتنجلي صفحاته . كذلك نجده في هذا الجُهد المتخصص في أدب الرحلات ، يعمل على تأصيل كتاباته عبر تلافي ما قد أهمله في السابق . إنه يعمل على تطوير ملَكته في كتابة هذا الجنس ، يقف بصف الكبار من الرحّالة، بل يفوقهم في مواضع كثيرة. كوّنه يُحدث مقارنة دائمة بين مكانه المكتشف ومكانه السابق الذي رحل عنه بصفة مهاجر. إن الفرق بين رحّالة يقصد أمكنة للتمتع والاكتشاف، وبين رحّالة غادر المكان قسراً وعمل على اكتشاف ما لم يجده ضمن معارفه ، سواء المكانية ، أو من معارف الكتب والمصادر المعرفية . فقد وجدناه يُهيئ صفحاته الشفاهية عن المكان، فيلجه دخول العارف بأسراره الشفاهية، والدخول يضعه ضمن دائرة المتحقق المكاني المباشر على الأرض ومع كل موجودات المكان، سواء كانت مدن أو غابات أو أنهار. كما وأنه يقدم دائماً فرشة تاريخية للمكان ، متضمناً ما يجري داخله من طقوس وعادات وتقاليد وأنواع الأطعمة والأشربة . فهو يعمل على وضع موسوعية المكان . 
أما في مجال المدن ، فقد قدم ويقدم دائماً توصيفاً. يخص مرافقها من (فنادق، مطاعم، ساحات، نُصب، حدائق، منتزهات) هذه الفرشة المعرفية المكانية حفلت بها كتبه بخصوص الرحلات. وبهذا استطاع أن يقدم لنا ما يُدهشنا بحق دون مواربة . فالدقة في معرفة تاريخ وسيّر القادة السياسيين والشعراء والزعماء، وتسميات الشوارع والأزقة، كان على درجة من الدقة التي أنتجت لنا فائدة ، لم نكن نقف يوماً على أسرارها. هذه المهمة التي أتت عن حِرفة في الكتابة  وذهناً يحتفظ بأسرار ما قدم، كي يعمل على إغناء تجربته اللاحقة.
إذ نجده يسير على مقولة ( أنت لا تدخل النهر مرتين) وإزاء هذه المقولة يقْدِمْ على اكتشاف الجديد الذي يُقدّم دهشة مختلفة عن سابقتها . وهذا باعتقادنا سر نجاح أدب الرحلات ، في كوّنه يقدم الدهشة المنطوية على الفائدة ، فهي تجربة غنية بما لم يعرفه الإنسان المتلقي . فجميع كتب الرحلات التي اطلعنا عليها تعمل على تقديم الدهشة المثيرة عبر دهشة الأشياء المكتشفة. 
ولكل من هذه التجارب خاصياته الذاتية والموضوعية و(فرات) دؤوب على تجديد تجربته كما أنه يعمل على تطوير شعريته ، التي اغتنت بسحر اكتشافاته، خاصة أساطير وأخبار وطقوس الشعوب المختلفة، والتي مارس علاقات مباشرة معها ومع أمكنتها ومرافقها العامة .إذ نراه في مواقع كثيرة بما تقدمه له من سحر الأشياء خاصة المتاحف الصغيرة، متمنياً أن يكون لكل منطقة في المدن العراقية متاحف مصغرة تجمع تراثها الغني، والذي يُساعد الرحّالة على الاطلاع عليه بشكل مباشر. لقد عمل المؤلف على أن يضع لمذكراته تواريخ امتدت بين سنتي(2013ــ 2014) وهي تسجل وجوده في مدن وغابات (فنزولا) . وقد تحقق خلال الكتاب ما سجله في المقدمة من ان (أدب الرحلات ليس تسجيلاً دقيقاً لِملا نشاهده، بل هو تعبير عن ثقافتنا ووعيّنا بالمكان وبالآخر). 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *