العالم مسرحيَّة كُبرى

العالم مسرحيَّة كُبرى
آخر تحديث:

ياسين النصير

لن يتصوّر أحدنا أن ما يجري على أرض العراق خلال هذه الفترة شأن محلي، أو داخلي، فمثل هذه الرؤية تعد قاصرة، إن لم تكن سطحية، فالأمور ليست بهذه البساطة أن يحرك المشهد العراقي الكثير من دول العالم، خاصة الدول الجوار، والكثير من المؤسسات ذات الرؤية العولماتية، خاصة شركات النفط والإتصالات والأسواق، وها نحن نشهد اضطرابا ما يحدث، قس البورصات واسواق المال وحركة النقل وطبيعة العلاقات مع دول بعيدة وقريبة منا. 

بالرغم من أن القضية العراقية بكل ما فيها لم ترقَ إلى مستوى أن ينتبه العالم الغربي وأميركا بجدية لها، لأنّ ما يجري هو من فعل فواعل المؤسسات الكبرى وأسواقها وقضايا النفط والصراعات الأقليمية. ومع ذلك أن ما يحدث له تأثير كبير، حتى لو تجاهلته الأوساط المعنية بحقوق الإنسان وغيرها، لأنّه يحفر تحت مجاري السطوح الظاهرة للعلاقات، انه هناك،  ثورة في الجذور. 

يستشهد المئات ويجرح الآلاف لمجرد وعي شقي لفئات معينة من الشباب وجدوا أنفسهم خارج التاريخ العراقي، معطلين من المشاركة، تقودهم تشكيلات السياسة لمواجهات يفرضها الجار الأجنبي عليهم، هذا الوعي الشقي أدى لاكتشاف الشباب لأنفسهم، وعرفوا أنهم ضحية السلطة ودول أخرى، جعلهم في اتون محرقة تسعر نارها جهات مختلفة كي يكونوا عاطلين وغير مؤثرين في المنطقة، والعراق الذي يملك كل الإرث الإنساني القادر على عبور محليته ليصطف مع الدول المتقدمة. وجد نفسه يخوض صراعات داخلية. هذه هي المشكلة التي انتبه الشباب إليها، لأنّهم هم أيضًا جزء من هذه الثروة البشرية المستغلة من قبل رجال واحزاب تدّعي الإسلام، وهو ما جعل الشباب يعون أنهم جزء من الحطب العراقي القابل للاحتراق في كل المراحل، هذه اليقظة الواسعة والحماسية والفاعلة، والتي استقطبت ملايين الناس، كانت مفاجأة للسياسيين الذين تعلّموا السرقات المالية والروحية، من أن هذا الشعب يمكن أن يقول كلماته الواضحة بوجههم: إنّكم تسرقون أعمارنا، وجهدنا، وصوتنا وهويتنا، لتطعموا كلابا نابحة على حدود دول أخرى لا تحادد العراق ولا لها أي اهتمام بما يحدث في العراق. هذه اليقظة الكونية للشباب بدأت تمتد حروفها التنويرية إلى بلدان أخرى، وحتى لو خففت في العراق، ستبقى مشتعلة لحين قريب، وسنجد صداها أقوى  كلما تخمرت وتأصلت في الأرض، شأنها شأن أية ثورة لا تقودها ايديولوجيا مسبقة بل تصورات نبتت كزرع مثمر في ساحات نضالية، فجدلية الثورات الشبابية يمكنها أن تضيف هامشًا تنويريًا للثورات الحديثة، من أن الايديولوجيا تأتي لاحقًا، إن لم تكن الساحات تصنع مفرداتها الحادة والقومية بالتدريج، لأنّ ثورات من هذا النوع لا تحتاج إلى كتب كثيرة لقراءتها، بل إلى ممارسات فيها الصواب والخطأ، ومنها ينمو ذلك العشب الممتد الجذامير على سطح العراق كله. ما حدث في اوروبا القرنين السابع عشر والثامن عشر من صراعات دموية ايقظت قطاعات الشباب اولًا في المانيا وفرنسا وهولندا وانجلتر، ثم ايقظت روح الديانات الخفية التي نصت عليها التعاليم السماوية كجزء من البناء الروحي والاجتماعي بمعزل عن مؤسسات الدولة، وكانت هذه اليقظة بداية لعصر التنوير الذي مهّدت إليه الصراعات الدموية الكبرى طوال 60 عامًا لتنتج عصر النهضة بكل ما يمكنه أن يكون ممهدات لعصر التنوير، وها هي اوروبا لها كنائسها ولها مؤسساتها العلمانية، ولها شخصيتها الحضارية، فكيف والعراق عين الدائرة الانثروبولوجية السادسة في العالم، من انه العصب الذي مدّ العالم بالقانون والكتابة والفلك والتنوير والأديان كلها. هذه الحقيقة التي غيّبها ممثلو السياسة الدينية عندنا حين يقصرون الحداثة على العقائد فقط.

من يقرأ تاريخ أوروبا المعاصرة، يجد ثلاثة عوامل مشتركة اسست للنهضة وللتنوير فيها:

1- العامل الأول هو استثمار القوى المادية والبشرية والطبيعية في التنمية، وهو العامل الأرضي الذي شيّدت أوروبا عليه مفاهيم واسس ومعرفة عصر التنوير كله. مستثمرة الكشوفات التي اسسها القرنان السابع عشر والثامن عشر في كل مجالات التحول.

2- العامل الثاني، هو النهضة العلمية التي صاحبتها الكهرباء واكتشاف النفط ومد السكك الحديد وانشاء المعامل ونظريات الفيزياء والكيمياء، والفلسفة وتطور الطب وعلوم المادة، وتطور الرؤية الدينية ومناهج التجريب والبحث، وتطور الجامعات، وتخصيص ميزانيات للبحوث العلمية، وبناء السفن لاكتشاف العالم الشرقي، والبحث عن الروح التي تسكن آسيا، ومد خطوط السكك الحديد وفتح قناة السويس وطريق بغداد برلين، والتفكير باستعمار العالم، هذا العامل الأرضي كان المجال الذي شيّدت اوروبا عليه ثوراتها الفلسفية والعلمية والتعليمية. 

3- العمل الثالث، وهو المهم في البنية الحداثية، هو الأدب والموسيقى والفنون التشكيلية، والعروض الفنية والبضائع التي تتصل بالأسواق الفنية، وكانت المانيا وفرنسا وانجلترا عين هذا النشاط فلسفة وادبًا ونقدًا وثقافة ورسمًا ومسرحًا وموسيقى. وكان إلى جوار هذه العوامل الثلاثة نمو وقوة مؤسسة القانون، التي حمت كل المنجزات التنويرية لمجتمعات متقاربة في الطماح التاريخي للنهوض.

على الجانب الآخر، لم تملك أوروبا في عصري النهضة والتنوير ما يملكه عراق اليوم وحده، ومع ذلك عمرت اوروبا بعشرة مليارات دولار فقط المانيا بعد هزيمة الفاشية، ونحن شهريا نبيع ما يقارب ستة مليارات دولار من الإنتاج النفطي فقط!!!. ويكفي إلى هنا الحديث عن البقية المأساوية المضحكة التي يعيشها العراق في زمن الأحزاب الفاسدة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *