العراق: تفكيك العملية السياسية بقلم طارق الدليمي

العراق: تفكيك العملية السياسية بقلم طارق الدليمي
آخر تحديث:

العراق: تفكيك العملية السياسية

وجهات نظر

طارق الدليمي

في الفحص الكرونولوجي الدقيق لمسيرة الحرب والاحتلال على العراق يمكن القول بدون مبالغة، إن الأشهر الخمسة بين أيار 2002 وأيلول 2002 كانت الأكثر قلقاً والأشد حيرة للإدارة الاميركية في زمن بوش الإبن. ذلك أن الدراسة المستفيضة التي أعدتها وزارة الخارجية الاميركية بإشراف كولن باول حول العراق الجديد بعد الاحتلال، تناقض العديد من افتراضاتها مع الحقائق القاسية التي بدأت تتوضح للإدارة في خصوص المواقف السياسية لدول الاقليم المحيط بالعراق، حول الاحتلال والشكل والمضمون الذي سيتخذه «العراق الجديد» لاحقاً. وكانت الحصيلة مرتبكة، ما جعل الادارة تغذ الخطى نحو «عملية الحرب» وبغض النظر عن التفاصيل المهمة. لكن ذلك لم يمنع هذه الادارة من التلميح إلى دول الجوار، كافة ما عدا سوريا، ببعض الآراء العامة التي لديها ويمكن أن تتحول إلى برامج تنفيذية بالمساعدة المهمة التي تتوقعها من هذه الدول.

وكانت هذه الآراء تتلخص في النقاط التالية: 

 

 

÷ الالتزام بمبدأ الحكم للأكثرية المذهبية وليس الأغلبية السياسية، وضمن إطار من التفاهم المشترك للحكم بين المكونات الثلاث العراقية: السنة، الشيعة، والأكراد. وهذه الصيغة استقرت عليها الادارة نهائياً، وكانت واضحة وحاسمة جداً في مؤتمر «المعارضة العراقية» التي رعته في لندن في منتصف كانون الأول من العام 2002. وكان المنسق والمشرف علناً على المؤتمر هو رجل النفط والمخابرات ـ خليل زلماي زاد، وفي الكواليس بول وولفويتز القطب الأهم في المحافظين الجدد، ومساعد دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي السابق.

÷ إن الأكراد سيستمرون في الوجود السياسي ضمن العراق الجديد وليس لدى الادارة النية أبدا في دعم الطموح الكردي التقليدي نحو إنشاء دولة كردية في المنطقة. 

÷ إن العراق الجديد لن يكون مشاكساً لدول الجوار وإنه سيتفرغ لبناء أوضاعه الداخلية والتعويض عن سنوات المرارة السابقة. وأن الهدف الاستراتيجي لدى اميركا جلي جداً، هو الفصل الكامل بين «العراق الجديد» والعلاقة التاريخية المعروفة مع القضية الفلسطينية. بل إن اميركا تعتمد بشكل فعال على «العراق الجديد» في مساعدتها للوصول إلى الاستقرار الكامل في المنطقة وبالتعاون المجدي مع محاورها المتحالفة معها، أو حتى المناهضة ضمن إطار ما من المصالح المشتركة.

ولكن الحديث ضمن هذه المعلومات الموثقة يسوغ لنا القول إن معظم الجهات الفكرية والسياسية، والمنتشرة في مراكز الأبحاث الاكاديمية أو الخاصة، كانت تفضل الابتعاد عن التفاصيل، وبغض النظر عن مواقفها المؤيدة أو المعادية للحرب والاحتلال. لكن السجالات الهامة التي تركزت على دور العراق الجديد قد جاءت من أطراف متعددة مختلفة في مناهجها السياسية في التحليل ومتقاطعة أو متنافرة أحياناً في استنتاجاتها الأخيرة. ويمكن تلخيص بعض هذه الأفكار بالنقاط التالية:

÷ إن الباحث الجامعي جيمس فيرون قد حذر مبكراً من مسألة «التشخيص الويلسوني»، واعتبرها خطأ جسيماً إذا ما أصرت الادارة على الالتزام بها، متصورة بذكاء أو سذاجة إمكانية نجاح تحويل الشعوب – الأمم إلى دول متعاونة مع اميركا ضمن هيكلية إعادة بناء «العراق الجديد»، مؤكداً على أن الدول لا يمكنها الانبثاق من الخارج وأنها حصاد تاريخي طويل المدى لتراكمات اجتماعية داخلية وتطورات سياسية ذات منظور وجهد بشري كبير في آفاقه وأغراضه.

÷ إن من أوائل الذين تراجعوا شكلياً عن مواقفهم السابقة هو روبرت ساتلوف، أحد أبرز منظري «الفوضى الخلاقة» للمحافظين الجدد، والذي صرح بعد تعيينه مستشاراً سياسياً في العراق بالنص الفاقع: «تبين أن الدول في المنطقة عملياً أكثر مرونة مما نعتقد وأشد قوة من توقعنا، وهي أمتن بكثير من قوى مسلحة خارجها»، وكان بذلك يطرح تصوراً جديداً لمسألة حل الأزمة السياسية ـ الادارية في العراق وكيف يمكن التفاهم عملياً بين القوى السياسية الممثلة للمكونات الثلاثة.

÷ لقد فضحت الديبلوماسية الاميركية الجوالة كارين هوغز في العام 2005 حول رزمة من الأفكار طرحت قبل الاحتلال وشهدت نقاشاً عاصفاً بين الديبلوماسي المخضرم ريتشارد مورفي وأحد أركان التسويق التجاري للحرب والاحتلال السفير ديفيد ماك حول الدور الداخلي في العراق الجديد وآفاق تطوره الاقتصادي المؤسساتي. إذ كان مورفي، وبالتناغم مع المنتدى العراقي بقيادة كنعان مكية ورند الرحيم، يميلون إلى إعادة الشأن للطبقة الوسطى في السياق الاقتصادي الجديد، بينما يميل ماك، ومعه كارين هوغز إلى أن العلاقات الاقتصادية الجديدة في العراق يجب أن تكون تحت الإشراف الأميركي وأن تتخذ من النموذج الماليزي قدوة في مجال الترميم الاقتصادي والمشاركة السياسية في الحكم وفي الموقف الحيادي من اسرائيل، حيث لا تعاديها ولا تقيم العلاقات معها في الصعد المتعددة.

÷ فرص الرأي الحاد الذي طرحه بول بريمر كانت ضئيلة. فهو الداعي إلى استراتيجية «الاناكوندا» والضربات القاضية على الجوانب، وأن العراق لعبة ذات مجموع صفري يجب العمل على تحويله إلى بلد خدمات لمصلحة الولايات المتحدة!

وكان المنظر أيان لوستك من جامعة «بنسلفانيا» يردد معه بأن الحروب الأهلية في العراق طبيعية لأنها جزء من تاريخه والأوضاع في الشرق الأوسط، وإذا حصل مثلا الانفصال للمنطقة الغربية الأنبار فإن الموارد النفطية فيها ستستخدم من أجل استرجاع الانفصال وتوحيد العراق مجدداً تحت الحماية العربية، وهو يقصد بوضوح الخليجية.
من هنا يمكن الاستنتاج، بدون مغامرة، بأنه قد حصل لقاء بين خطين، يبدوان متناقضين، في السياسة الاميركية في الاحتلال الأول، أهمية بناء «الكوندومينيوم» الإقليمي للحفاظ على الاستقرار في العراق والمنطقة، والثاني، يضمن «الكوندومينيوم» نجاح العملية السياسية المزمع البدء بها لبناء حكومة مؤقتة تدعم «الكوندومينيوم» بدورها وتسعى إلى الوصول إلى الديموقراطية الاحتلالية للمكونات العراقية الثلاثة. هذه العلاقة العضوية بين الطرفين تجعل من الصعب جداً تفكيك أحدهما بدون حسم تفكيك الثاني. والمسألة طبعاً ليست ذات شكل خاص في العلاقات الدولية أو مضمون خاص في نظم الحكم، وإنما هي بالضبط النظرة الذرائعية للمؤسسة الاميركية وقناعتها بأن اميركا عاجزة وحدها عن إدارة هذا الجحيم الجديد. وهذه النظرة تستند على مزيج متجانس ومتناقض بين توازن القوى المتصارعة في الأرض العراقية، العراقية أو غيرها، وتوازن المصالح للقوى المنخرطة في الصراع، العراقية أو غيرها، شاءت أم أبت من أجل تحقيق أهدافها ودائماً تحت السقف الاميركي المطلوب.

إن الأمثلة غزيرة لهذه الآلية المعقدة التي لم يشهدها العراق سابقاً، إلا في العهد العباسي وبدون وجود قوة دولية ضاربة، إذ أن العراق في العهد البريطاني كان ممنوعاً على دول الجوار العربية وغيرها أن تتدخل في شأنه وتظهر في حينها الدولة العراقية، المدعومة من الاستعمار البريطاني، وكأنها ذات سيادة كاملة في إقليمها المحيط بها، بل كانت بريطانيا عازمة على جعل العراق نموذجاً بحد ذاته في المنطقة يمكن الاحتذاء به ويكون مواجهاً للنزعات المعادية للامبريالية ولا سيما بعد صعود الناصرية في الخمسينيات. 

إن تجاوز «الكوندومينيوم» والعملية السياسية، وقبل المبادرة إلى تفكيكهما، لا يمر إلا عبر النضال السياسي العلني والسلمي الشاق ضد السيطرة الامبريالية الاميركية والعالمية، والهيمنة الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة حصراً ومحاولاتها الخبيثة للالتفاف على العراق وشعبه المعذب. وهذا يستدعي بالضرورة ليس وحدة الصف الوطني فقط وإنما العمل اليومي المثابر من أجل تخطي الآثار العنقودية للاحتلال بخصوص الحركة الوطنية التقليدية والتطورات التي حصلت في صفوفها والإضافات التي برزت في مجاميعها الاجتماعية والحزبية السياسية المتفرقة.

من هنا فإن الأحاديث التي ظهرت مؤخرا في الجسم السياسي العراقي، حول خروج العراق من الفصل السابع أو الاستقلال العراقي السياسي والعسكري، هي أكاذيب جديدة تشكل مع الأكاذيب السابقة ذخراً مهماً للاحتلال وأدواته في تسويق أوهام أخرى حول طبيعة الاستقلال الوطني تحت النفوذ الأجنبي. ويمكن القول إن وزارة الخارجية التي يشرف عليها قيادي من بطانة السنجق البارزاني لها الدور المركزي في عملية «الكاموفلاج» هذه والتي تتقنها الدوائر التنفيذية في الامم المتحدة وتحت الرعاية الاميركية.ونرى من واجبنا الإشارة إلى ردين مفحمين حول هذا التزوير هما:

الأول جاء من وزير الاعلام الكويتي حيث صرح: «إن العراق لم يخرج كلياً من أحكام الفصل السابع وإن ملف التعويضات المترتبة على العراق ما زالت تحت طائلة هذا الفصل.أما الجهة الثانية فهي الكاتب الاميركي في «ياهو نيوز»، اوليفيه نوكس، حيث أكد أن قانون التدخل العسكري في العراق، شرع من قبل الكونغرس في تشرين الأول 2002، ما زال نافذاً وأنه جرت محاولة لإلغائه في تشرين الثاني 2011 في الكونغرس، ولكنها باءت بالفشل وصوت ضدها العشرات من المشرعين ومنهم «جون كيري» وزير الخارجية الراهن».ولعل التصريحات التي أدلى بها المندوب السامي الاميركي في العراق، ستيفن بيكروفت، مؤخراً تعطي المصداقية الكاملة للاعتراضات المذكورة أعلاه. فقد كان متشدداً وعصبياً حين تفوه بعبارات غير لائقة ديبلوماسياً، مردداً نغمات الحيرة: «ليس من حق رئيس الوزراء العراقي المقبل عدم التعامل مع اميركا ولديها الطرق لتحقيق ذلك.نعم لدى الاستعمار الأساليب العديدة والماكرة ضمن سياساته التقليدية في الخروج من الباب علناً والرجوع عبر الشباك سراً وتحت واجهات رديئة ومتعددة.

l

 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *