العراق: من الانسداد إلى الاضمحلال السياسي

العراق: من الانسداد إلى الاضمحلال السياسي
آخر تحديث:

بقلم:اياد عنبر

لم يعد مفهوم الانسداد السياسي الذي يتم تداوله من قبل النخب الأكاديمية والإعلامية والسياسية قادراً على توصيف مأزق الدولة والنظام السياسي في العراق، فهشاشة النظام السياسي وانعدام ثقة الجمهور فيه تفرض علينا البحث عن مقاربات أخرى لوصف مأزق الدولة في العراق وتداعيتها في المستقبل القريب والمنظور.

ولطالما أُعجبت بنظريات المفكر الأميركي، صامويل هنتنغتون، (ت: 2008)، ولعل مصدر الإعجاب في كتابات أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد هو نظرياته التي نحاول من خلالها إيجاد تفسير للتطورات والأحداث السياسية في بلداننا. وعلى الرغم من أن الكثير من الأيديولوجيين العرب وجماعات الإسلام السياسي ركزوا على كتابه (صِدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي) لأنهم وجدوا فيه ضالتهم التي تؤكد مستقبل الصِدام بين الإسلام والغرب! لكن كتاب هنتنغتون (الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين) قد كان حاضراً بقوة في نقاشات الكثير من الباحثين الذين حاولوا قراءة أحداث ثورات الربيع العربي.

أما موضوعنا (الاضمحلال السياسي) فهو الفرضية التي قدمها هنتنغتون في كتابه (النظام السياسي في مجتمعات متغيّرة) ويفسر من خلالها أزمات النظام السياسي التي تكون نتيجة انعدام التوازن بين البنية السياسية والتوجه نحو سياسات التحديث التي تريد الانتقال بالمجتمع من نمطٍ تقليدي إلى نمطٍ حديث.

يجادل هنتنغتون بأن النظام السياسي-في جانب منه- يعتمد العلاقة بين تطوير المؤسسات السياسية وحراك القوى الاجتماعية الجديدة، وإن مشاكل عدم الاستقرار السياسي تؤدي إلى التقويض التدريجي لسلطة الحكومة وفاعليتها وشرعيتها، لأنها نتاج -وإلى حد كبير- للتغير الاجتماعي السريع الذي يعبر عنه الفاعلون الاجتماعيون الجُدد في مجال السياسة، يقابله تطور بطيء في المؤسسات السياسية.

الكثير من البلدان الناشئة يكون المجتمع السياسي فيها مفتت، ومؤسساته ضئيلة السلطة، وسيادتها ضعيفة وجامدة لا مرونة فيها، ولا تمارس أنظمة الحكم حُكماً، وتحدث الفجوة السياسية عندما تُقابَل ديناميكية المجتمع بجمود النظام السياسي. وفرص حدوث الاضمحلال السياسي تصبح واقعاً عندما تكون هناك فجوة بين الحراك الاجتماعي والمؤسسات السياسية، ويحدث ذلك عندما يعجز النظام السياسي عن الاستجابة لمتطلبات الأجيال الصاعدة أو الجزء الأكبر من الجمهور؛ عندها يشعرون بالإحباط لأنهم يجدون أنفسهم غير قادرين على المشاركة السياسية.

ملامح الاضمحلال السياسي في العراق تتضح من خلال قراءة ما يعبَّر عنه بمطالب حركات الاحتجاج، ويقابلها واقع سياسي، من أبرز ملامحه: وجود حكومة لكنها هشة وعاجزة، وبرلمان مفكك ومحكوم بتوافقات زعماء الكتل ويمارس أعضاؤه دورهم الرقابي من خلال اللقاءات التلفزيونية والتصريحات الصحفية، وليس تحت قبة البرلمان. وطبقة سياسية مشتتة متناحرة لا تعرف أي معنى من الانسجام والتوافق إلا في توزيع غنائم السلطة. ومن ثم، أصبحت استراتيجية الطبقة السياسية مختصرة في بقاء النظام السياسي العاجز وإدارته بحكومات ضعيفة، لذلك نجد أن تغير الحكومات لا يغير من الواقع المأسوي شيئاً! بل العكس هو يراكم الفوضى والخراب ويوسع دوائر الفساد والفشل.

لا الاحتجاجات ساهمت في تصحيح المسار لإنقاذ ما تبقى من عملٍ صحيح في هذا النظام السياسي، ولا دعوات الإصلاح السياسي كانت تمتع بالمصداقية والإرادة الحقيقة حتى يتم تجسيدها على أرض الواقع. ولذلك تبقى الدولة العراقية في مرحلة التيه بين الدولة واللادولة ونظام سياسي لكنه لا يعني حكم المؤسسات، وإنما حكم زعامات الطبقة السياسية والميليشيات.

هناك سؤال مهم يُطرح؛ إذا كان النظام السياسي في العراق يتجه نحو الاضمحلال السياسي، فما الذي يعطل انهياره؟

رغم أن أغلب فرضيات هنتنغتون تنطبق على توصيف المأزق السياسي في العراق، إلا أن هناك خصوصية في تجربة العراق السياسية تعمل على تعطيل انهياره، والتي تتركز في ثلاث محاور رئيسة:

الأولى، توافق الاقطاعيات السياسية على أن إعلان الموت الرحيم لنظام سياسي قائم على أساس صفقات تقاسم السلطة بين زعماء الاوليغارشيات السياسية وحاشيتهم يعني خسارة جميع الطبقة السياسية.

والثانية، الفوضى والفساد هي من تعمل على إدامة النظام السياسي، إذ أن النفوذ والسيطرة على مؤسسات الدولة يساهم بإيجاد نوع من التوافق الضمني بين الفرقاء السياسيين على نهب الثروات والموارد الاقتصادية للدولة وتقاسم الاقتصاد الريعي. سواء أكان النفوذ والسيطرة يجري عن طريق الأحزاب السياسية، أو قوة السلاح المنفلت، أو يجمع بين قوة السلاح والنفوذ السياسي. فكل هذه الطرق تؤدي إلى نتيجة واحدة، هي نهب الثروات، ومن ثم تكون مهمة الحكومات إدارة نظام الحكم على أساس تحقيق التوزان بين رغبات ونفوذ مافيات السلطة.

أما الثالثة، البيئة الإقليمية التي لا تريد انهيار العراق ولكنها تعمل على ابقائه دولةً هشة، ولذلك هي تغذي الانقسام والتشرذم والضعف والاختراق والفساد؛ لأنه يسهل تمرير الأجندة ومشاريع دول الجوار الإقليمي.

وباعتقادي أن منظومة العمل السياسي الحاكمة في العراق أصابها الاضمحلال السياسي، ولكنها لم تُنهر بعد. بيد أن تأخر إعلان موت هذه المنظومة ليس بسبب قوتها وصلابتها، وإنما البديل لم يتوفر بعد حتى يفرض نفسه، ومن هنا يعتبر فرانسيس فوكوياما الاضمحلال السياسي بطرقه المتعددة حالة من حالات التطور السياسي: “القديم لا بد أن ينهار لإفساح المجال أمام الجديد. لكن التحولات قد تكون فوضوية وعنيفة إلى أبعد الحدود؛ وليس ثمة ضمانات بأن المؤسسات السياسية سوف تتكيف مع الظروف الجديدة بشكل ملائم وسلمي على الدوام”.

علاج الاضمحلال السياسي، كما يطرحه هنتنغتون، يبدأ بتعزيز قوة الدولة وفاعليتها في فرض نفوذها على المجال العام، وكفاءة الدولة وقوتها تقاس الآن بقدرتها على فرض القانون وسرعة استجابتها لمتطلبات الجمهور. وهنا تحديداً يجب تعزيز النظام المؤسساتي وتطوير مستوى الإدارة السياسية على نحو يجعلها أكثر مرونة في الاستجابة للمطالب والحاجات المجتمعية. وهذه الخطوات وغيرها ليس بالمعقدة ولا بالتعجيزية، وإنما تحتاج بالدرجة الأولى إلى توفر الإرادة السياسية، وهي ما نفتقده في العراق حتى هذه اللحظة!

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *