آخر تحديث:
بغداد/ شبكة أخبار العراق- كان العراق يُقدَّم لعقود بوصفه بلد النخيل والتمور بلا منازع؛ أرض السّواد التي تغصّ ببساتين تمتد على ضفّتي دجلة والفرات، وتمره جزء من هويّة المكان مثل النفط تماماً. اليوم تكشف خرائط التجارة عن مفارقة حادّة: العراق ما زال ضمن كبار المنتجين للتمور من حيث الكميّة، لكنّه خارج تصنيف أوّل خمس دول مصدّرة من حيث القيمة، بينما تتقدّم دول أصغر مساحة وإمكانات، بينها إسرائيل، إلى المراتب الأولى.في الوقت نفسه، تخرج شاحنات “البرحي والزّهدي” من بساتين ديالى والبصرة والنجف وكربلاء باتّجاه منافذ الجنوب، ليشتري التاجر الخليجي التمور العراقيّة “خاماً”، يعيد تعبئتها وتصنيعها وتسويقها تحت علامات تجاريّة جديدة، فيما يبقى الفلّاح العراقي على الهامش، والحكومة تتعامل مع التمرة كما لو كانت محصولاً عادياً لا ثروة إستراتيجيّة.بهذه الصورة تتكوّن معادلة مركّبة: بلد كان يوماً في مقدّمة دول التمور، يتحوّل إلى مموّل خام لتجّار الخليج، ويجد نفسه خارج نادي كبار المصدّرين، بينما تدخل إسرائيل بقوّة إلى هذا النادي وتستثمر ما تجاهله العراقيّون طويلاً.
-
يتجاوز عدد أشجار النخيل في العراق نحو (22,000,000) نخلة، مع خطط رسميّة للارتفاع إلى قرابة (30,000,000) نخلة خلال السنوات المقبلة.
-
يتراوح إنتاج العراق السنوي من التمور في المواسم الأخيرة بين (700,000) و(800,000) طن تقريباً.
-
بهذه الأرقام يندرج العراق ضمن أكبر خمس دول منتجة للتمور في العالم من حيث الكميّة، بحصّة تقديريّة تقارب (%6 – %7) من إجمالي الإنتاج العالمي.
-
يمتلك العراق قرابة (400) صنف من التمور، بينها نحو (100) صنف يُوصَف بأنّه نادر أو شبه نادر على مستوى العالم.
هذه الأرقام تقول إنّ العراق يجلس على ثروة تمريّة ضخمة، من حيث عدد النخيل وحجم الإنتاج وتنوّع الأصناف، لكن ما يصل إلى جداول التجارة الدوليّة من قيمة مضافة يبقى أقلّ بكثير ممّا تسمح به هذه القاعدة الزراعيّة.
على مستوى التصدير بالقيمة، يتغيّر شكل الخريطة بالكامل:
-
تصنيفات التجارة الدوليّة تضع دولاً مثل السعودية، باكستان، إسرائيل، تونس، والإمارات في صدارة الدول المصدّرة للتمور من حيث القيمة.
-
العراق، رغم حجمه الإنتاجي، لا يظهر ضمن أوّل خمس دول مصدّرة، ويُقدَّر موقعه حول المركز الثامن تقريباً في سلّم الدول المصدّرة.
-
تقديرات قيمة صادرات التمور العراقيّة السنويّة تدور غالباً بين (100,000,000) و(130,000,000) دولار.
-
في المقابل، تُقدَّر صادرات إسرائيل من التمور، وعلى رأسها “المجدول”، بأكثر من (300,000,000) دولار سنويّاً، ما يضعها ضمن أوّل ثلاث دول مصدّرة عالمياً من حيث القيمة.
المعادلة الرقميّة واضحة:
-
العراق يبيع كميّات أكبر، لكن بسعر أقلّ للطن الواحد.
-
إسرائيل تبيع كميّات أقلّ، لكن بسعر أعلى بكثير للطن، بفضل التصنيع والتغليف والتسويق المدروس.
هكذا يصبح بلد النخيل التاريخي خارج نادي الخمسة الكبار في التصدير، بينما تحجز إسرائيل لها مقعداً مريحاً بين الكبار، مستفيدة من مساحة فرّغها العراق بيده عندما اكتفى بدور المورّد الخام.
حين يفضّل التاجر الخليجي التمور العراقيّة خاماً، فهو لا يتحرّك بدافع عاطفي تجاه “تمور أرض السّواد”، بل بدافع حسابات ربح دقيقة تقوم على ثلاثة عناصر رئيسيّة: السعر، والكمّيّة، وقابليّة التصنيع بحسب مصادر “بغداد اليوم”.يرى التاجر في السوق العراقيّة فلّاحاً محاصَراً بثلاث حقائق: لا سعر حماية يضمن له حدّاً أدنى من الربحيّة، ولا شبكة خزن وتبريد تحمي المحصول من التلف، ولا سياسة حكوميّة تشتري منه التمر لصالح صناعة وطنيّة، فيضطرّ إلى البيع بسعر متدنّ خوفاً من ضياع الموسم.من زاوية التاجر الخليجي، يتحوّل التمر العراقي في هذه اللحظة إلى “مادّة خام مثاليّة”: وفيرة، رخيصة نسبيّاً، وقابلة لأن تدخل في عشرات خطوط الإنتاج في مصانع الدبس والمعجون والحلويّات، أو تُخلط مع أصناف أخرى لإنتاج تمور مكبوسة ومنتجات جاهزة للتصدير.
دوافع التاجر الخليجي… أرقام ومكاسب
-
انخفاض السعر عند باب المزرعة يجعل متوسّط كلفة الطن من “البرحي والزّهدي” العراقي أقلّ من كلفة تمور منافسة في أسواق أخرى.
-
القدرة على جمع كميّات كبيرة من محافظات عدّة وتحويلها إلى شحنات ضخمة تقلّل كلفة النقل والخزن لكل طن.
-
أصناف مثل “الزّهدي” و”الخستاوي” مثاليّة للصناعات التحويليّة (دبس، معجون، حشوات غذائيّة) بسبب تحمّلها للتخزين والكبس والنقل لمسافات طويلة.
-
غياب منافسة عراقيّة جدّية في سوق “المنتج النهائي” يتيح للتاجر الخليجي أن يطوّر علامة تجاريّة خاصّة به من دون أن يصطدم بمنتج عراقي منافس في الرفّ نفسه.
-
إمكانيّة إعادة تصدير التمر العراقي بعد تغليفه وتصنيعه إلى أسواق آسيويّة وأوروبيّة وأفريقيّة، مع تحقيق هامش ربح أعلى بكثير من الهامش الذي حصل عليه الفلّاح عند البيع خاماً.
بهذه المعادلة يصبح التمر العراقي بالنسبة للتاجر الخليجي أشبه بـ”نفط خام زراعي”: يُشترى بسعر منخفض، يُكرَّر في مصنعه، ثم يُباع باسم جديد وسعر جديد في أسواق أبعد، بينما يظلّ البلد المنتج في الخلفيّة.
القصة لا تتوقّف عند حدود تصرّف التاجر، بل تمتدّ إلى سياسات حكوميّة تركت أصنافاً عراقيّة عريقة تواجه السوق وحدها. “البرحي والزّهدي” في هذا السياق يشبهان حقلاً نفطياً مفتوحاً من دون حراسة؛ من يملك القدرة على الضخّ يستفيد، ومن يفترض أن يحمي الثروة يكتفي بالمشاهدة.تخلّي الحكومة عن حماية هذه الأصناف يمكن قراءته على أكثر من مستوى:
-
غياب سياسة ثابتة لـ”سعر الحماية” تشتري من خلالها الدولة التمور من الفلّاحين بسعر يضمن الحدّ الأدنى من الربحيّة، كما تفعل دول أخرى مع محاصيل إستراتيجيّة.
-
عدم وجود برنامج وطني معلن لتثبيت مكانة أصناف الهويّة (البرحي، الزّهدي، الخستاوي) في البساتين، عبر دعم الشتلات، ومكافحة الآفات، وتجديد البساتين على أسس علميّة.
-
ضعف الاستثمار في مصانع التمور داخل العراق، سواء في تجهيز خطوط التعبئة والتغليف والتبريد، أو في ربط هذه المصانع بشبكات تسويق خارجيّة وعقود تصدير طويلة الأجل.
-
تأخّر إطلاق علامة تجاريّة وطنيّة موحّدة لتمور العراق تُستخدم في العقود الخارجيّة، وتُلزم المصدّرين بإظهار بلد المنشأ بوضوح على المنتج النهائي.
في غياب هذه الأدوات، يصبح الفلّاح هدفاً سهلاً للمضاربين، وتتحوّل التمرة العراقيّة، المعروفة تاريخيّاً بجودتها، إلى الحلقة الأضعف في السلسلة بدل أن تكون نقطة القوّة.
الأرقام التي تكشف كلفة هذا التخلّي
-
عندما يبيع الفلّاح تمره بسعر متدنّ، يفقد جزءاً كبيراً من قدرته على إعادة استثمار الموسم التالي في خدمة النخلة، فتتراجع الإنتاجيّة تدريجيّاً، أو يلجأ إلى اقتلاع بعض الأشجار لزراعة محاصيل أسرع ربحيّة.
-
تقديرات مختصّين في سلاسل القيمة الزراعيّة تشير إلى أنّ الفاقد في الكمّ والنوع يمكن أن يقترب في بعض المواسم من حدود (%30) من الإنتاج الكلّي للتمور، بسبب سوء الجمع والتخزين والنقل.
-
الفرق بين بيع التمور خاماً بقيمة تقريبية بين (100,000,000 – 130,000,000) دولار سنويّاً، وبين إمكانيّة رفع متوسّط سعر الطن عبر التصنيع والتعبئة ودخول أسواق ذات قدرة شرائيّة أعلى، قد يرفع العائد إلى حدود (250,000,000 – 300,000,000) دولار سنويّاً، أي بفارق يقارب (120,000,000 – 150,000,000) دولار من القيمة المضافة المهدورة.
-
في الجهة المقابلة، تستفيد دول وسيطة ومنتجون آخرون من هذه الفجوة، فتُسجَّل صادراتهم من التمور بمئات ملايين الدولارات، بينما يبقى العراق خارج نادي أوّل خمس دول مصدّرة عالمياً رغم ثقله الإنتاجي وتاريخه.هذه الأرقام لا تتحدّث عن “ترف اقتصادي”، بل عن أموال حقيقيّة تضيع من يد الفلّاح والخزينة العامّة وتذهب إلى مصانع وموانئ خارج الحدود.
إذا استمرّ الوضع كما هو، سيبقى التاجر الخليجي يفضّل التمور الخام العراقيّة، وسيبقى العراق يبيع ذهب نخيله بسعر خردة، بينما تتقدّم دول أخرى، بينها إسرائيل، في قوائم كبار المصدّرين. لكن الصورة ليست قدراً نهائياً؛ يمكن قلب المعادلة إذا جرى التعامل مع التمر بوصفه ملفاً إستراتيجيّاً لا موسماً زراعيّاً عابراً.
المطلوب مساران متوازيان:
-
مسار قصير ومتوسّط الأجل يعيد الاعتبار للفلّاح، عبر سعر حماية، ومراكز تجميع، وخدمات خزن وتبريد، وعقود شراء واضحة تمنع استغلال حاجة المزارع إلى البيع السريع.
-
ومسار إستراتيجي يبني صناعة تمر حقيقيّة داخل العراق، ويطلق علامة تجاريّة وطنيّة، ويربط البصرة وديالى والنجف وميسان بخطوط تصدير تضع “تمور العراق” في واجهة الرفوف، لا في خلفيّة الملصقات.











































