رداً على دعوة رئيس وزراء إقليم كردستان نجيرفان البارزاني إلى حوار جدّي مع بغداد لحلّ المشكلات، قال رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي: أنه يطالب سلطات الإقليم بإعلان الالتزام بعدم السعي للانفصال عن العراق، وذلك طبقاً لقرار أصدرته المحكمة الاتحادية العليا أكّدت فيه عدم جواز انفصال أي إقليم أو محافظة أو إدارة محلية عن البلاد، استناداً إلى أحكام الدستور.
وجاء قرار المحكمة بناءً على طلب من مجلس الوزراء الاتحادي بتفسير المادة الأولى من الدستور التي تنص على أن ” جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة ونظام جمهوري نيابي برلماني ديمقراطي”. وخلصت المحكمة إلى أن هذه المادة والمواد الدستورية الأخرى ذات العلاقة تؤكد “وحدة العراق” مضيفة أن المادة 109 من الدستور: تُلزم السلطات الاتحادية أيضاً بالمحافظة على هذه الوحدة . علماً بأن قرار المحكمة المذكور كان قد صدر بموافقة 6 أعضاء (أغلبية ) ومعارضة 3 أعضاء.
ويأتي قرار المحكمة الاتحادية العليا بعد أسابيع من إجراء سلطات الإقليم، الاستفتاء في محافظات كردستان (إربيل والسليمانية ودهوك) إضافة إلى حلبجة ، كما شمل المناطق التي سمّيت في الدستور بـ” المتنازع عليها” ، وكانت قوات البيشمركة قد وضعت اليد عليها بعد تحريرها من أيادي تنظيم الدولة الإسلامية ” داعش” عقب احتلال محافظة الموصل 10 يونيو (حزيران) 2014 والتمدّد إلى محافظتي صلاح الدين والأنبار، إضافة إلى أجزاء من محافظتي كركوك وديالى.
وكانت الاحتكاكات قد وصلت مرحلة منذرة بالصدام بُعيد رفع علم كردستان على الدوائر الرسمية العراقية، بناء على قرار من محافظ كركوك نجم الدين كريم، الذي كانت إقالته إشارة أولى من جانب بغداد باستعادة المناطق المتنازع عليها والمنافذ الحدودية وحقول النفط والمطارات، لتصبح بيد السلطة الاتحادية حسبما ينصّ عليه الدستور.
إن دعوة نجيرفان البارزاني إلى حوار جدي مع السلطات الاتحادية، لبحث جميع المشاكل في ضوء الدستور العراقي، وحل الخلافات والقضايا العالقة، مع تأكيد استعداده للتعاون معها، لصرف رواتب موظفي الإقليم ، هي خطوة جديدة بعد استعادة للتعاون معها، لصرف رواتب موظفي الإقليم، هي جديدة استعادة الحكومة الاتحادية المناطق التي سيطرت عليها قوات البيشمركة بعد احتلال داعش للموصل أو تلك التي تمدّدت فيها بعد احتلال العراق العام 2003، علماً بأن بغداد ظلّت تغضّ النظر عنها، أو أنها دخلت في إطار مساومات غير مبدئية مع حكومة المالكي بالتحديد قبل هذا التاريخ. وكان نجيرفان البارزاني قد عبّر عن رغبته في الحوار بعد أن عرض أوضاع الإقليم التي قال عنها أنه ” في مرحلة حسّاسة تتطلّب وحدة الصف، كما إن المشاكل لا تحلّ بالقوّة العسكرية”.
وكانت موازيين القوى قد تغيّرت، فبعد الحديث عن “حدود الدم” ورفض أي مقترح عن تأجيل أو إلغاء الاستفتاء أو نتائجه، بدأت القيادات الكردية الكلام مجدداً عن الحوار والاستعداد لتأجيل نتائج الاستفتاء، علماً بأن مثل هذا الإجراء لم يكن “برسم التنفيذ” كما يُقال، وأنه لا يعني سوى الرغبة في معرفة رأي الشعب الكردي، وتحويلها لاحقاً من حلم مشروع إلى تطبيق حقوقي، يتّخذ شكلاً قانونياً، لكن هذا الأخير ليس قراراً انفرادياً، وإنما هو قرار يتعلق بمصير ومستقبل الدولة العراقية، حيث يقتضي الأمر تفاهمات جديدة، لاسيّما إذا أريد إقامة كيان جديد ينشطر عنها، فضلاً عن ذلك، فالأمر له علاقة بدول الإقليم، حيث عارضته بشدّة كل من طهران وأنقرة، وحتى دمشق المشغولة بهمّها الداخلي، فإنها حذّرت من خطوة الانفصال لما لها من تأثير جيو سياسي سيشمل دول الإقليم التي تعاني من مشكلة كردية مستمرة، بل إن أوضاع كرد العراق، ولاسيّما في السنوات المنصرمة، لا يمكن مقارنتها بنظرائهم من دول الإقليم من حيث الحقوق والحرّيات والمشاركة في إدارة الحكم وسياساته، إضافة إلى الشراكة في الثروة والقرار السيادي.
إن القيادات الكردية، التي استمرّت موحّدة من حيث الظاهر حول قرار إجراء الاستفتاء، بدت مختلفة، بل ومتعارضة بعد إجرائه، خصوصاً وإن الموقف من قرارات حكومة بغداد، بشأن استعادة سيادة السلطة الاتحادية على كركوك والمناطق المتنازع عليها، بما فيها المطارات والمنافذ الحدودية وحقول النفط، كان متبايناً، وهو الأمر الذي دفع رئيس الإقليم السابق مسعود البارزاني، إلى اتهام طرف كردي (يقصد جناح أساسي في الاتحاد الوطني الكردستاني) بالخيانة، لموافقته على عدم المواجهة مع القوات العسكرية الاتحادية وإخلائه المناطق المذكورة دون أية مجابهات.
لقد أدرك عدد من القيادات الكردية إن بغداد جادة في تنفيذ قراراتها، بل وعازمة على “تطبيق الدستور ” كما قالت، لفرض نفسها كقوة موحّدة لإدارة الحكومة، حيث توافقت الشيعية السياسية الحاكمة مع السنّية السياسية المشاركة ، وفي ظل دعم شعبي وبتأييد طهران وأنقرة، إضافة إلى تحفظات المجتمع الدولي، بما فيه الولايات المتحدة التي كان لوم مسعود البارزاني شديدا لها، لأنه يعتبر الأكراد حلفائها، وإذا بها تتركهم في محنة، بل تخذلهم في ظرف عصيب، خصوصاً وأن قراءتهم للأحداث كانت خاطئة.
لذلك أخذت تتكرّر الحكمة الكردية القديمة التي تقول ” لا صديق للأكراد سوى الجبال” وقد ردّدها بعض القادة الكرد بمرارة، وهو ما كان ينبغي أخذه بنظر الاعتبار، وأقصد بذلك “دكتاتورية الجغرافيا السياسية ” الوعرة التي طالما حاصرت الأكراد وقطعت عليهم طريق الأمل في تحقيق أحلامهم تاريخياً .
إن قرار الاستقلال هو قرار في غاية الخطورة وكان ينبغي التفكير به ملياً، بغض النظر عن أحقية الشعب الكردي في تقرير مصيره، لكن المسألة لها علاقة بتوازن القوى Balance of power ، وهذه تكبح وتحدّ من تحقيق حلمهم المشروع لأنها تتعامل مع الواقع، بما فيه من عُقد وإشكالات وتحدّيات ومصالح.
ومن أهم القضايا التي تتطلب تفاهماً جديداً لتوازن القوى الجديد المعابر الحدودية مع تركيا وإيران، وكان الاتفاق بشأنها قد تم مبدئياً، على تسليمها وإدارتها من قبل الحكومة الاتحادية، إلاّ أن هناك تلكؤًا قد حصل وهذا أدى إلى عودة التوتر من جديد، بعد تأخّر إدارة الإقليم من تسليمها، الأمر الذي قد ينذر باستئناف العمليات العسكرية وإعادة انتشار الجيش العراقي.
وسبب التأخير يعود إلى عدم ثقة قيادة الإقليم بالسلطة الاتحادية وخشيتها من احتمال تمدّدها وجعلها الإقليم في وضع حرج ولا يُحسد عليه، بعد أن كان الإقليم هو الذي يحاول قضم الأرض لمصلحته، وخصوصاً في المناطق التي تم تحريرها من داعش.
وكانت قيادة الإقليم قد أبدت استعدادها بقبول ” إشراف” السلطة الاتحادية على الحدود ، لكنها تحفّظت بشأن سيطرتها على المعابر المؤدية إلى إقليم كردستان، في حين تعتقد بغداد إن الدعوة للحوار قبل إلغاء الاستفتاء ونتائجه وتأكيد عدم الرغبة في الانفصال، تستهدف كسب الوقت وتعزيز الدفاعات الكردية. وكانت الحكومة العراقية قد اتهمت الإقليم بقيامه تحريك قواته وبناء دفاعات جديدة لعرقلة انتشار القوات الاتحادية، خلال فترة التفاوض.
وشدّدت بغداد على تأمين سيطرتها على المناطق المتنازع عليها والحدود. وتشعر بغداد بأنها أكثر قوة ونفوذاً وتأييداً داخلياً وخارجياً من قبل، خصوصاً في ظلّ تطوّرات الموقف الكردي الداخلي وتصدّع الوحدة الوطنية الكردية ما بعد الاستفتاء، لاسيّما ما حصل من اعتداءات على مقرّات بعض الأحزاب الكردية، واقتحام مقر البرلمان واستخدام العنف ضد بعض الإعلاميين ومحاولات إحداث فوضى واضطرابات في إربيل ودهوك. وعلى الرغم من تنحّي رئيس الإقليم مسعود البارزاني، فإن تأثيره على المشهد الكردي لا يزال كبيراً، فهو يمثل المرجعية السياسية (قيادة فوق قيادات الإقليم الحكومية) إضافة إلى كونه رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني أقدم وأقوى الأحزاب الكردية وأكثرها انسجاماً.
ولعلّ آخر تطور في محاولة لإحداث توازن جديد للقوى، هو اقتراح قيادة الإقليم “نشر قوات مشتركة” من السلطة الاتحادية ومن قيادة البيشمركة عند معبر حدودي استراتيجي مع تركيا بمشاركة قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة، بهدف إيجاد تسوية سلمية وإنهاء احتمالات المواجهة العسكرية، لكن هذا الاقتراح لقي إهمالاً من جانب بغداد التي قالت إن الهدف منه هو المناورة، وكان هذا هو جزء من اقتراح ضمّ خمس نقاط” لنزع فتيل الأزمة”، وكانت قد تقدّمت به إدارة الإقليم إلى الحكومة الاتحادية يوم 31 أكتوبر (تشرين الأول ) المنصرم وتضمن وقف إطلاق النار واستمرار التعاون في التصدّي لداعش وانتشاراً مشتركاً في المناطق المتنازع عليها… الخ.
وإذا كانت المفاوضات قد بدأت فيما يتعلق بالجوانب الفنية بناء على توصية واقتراح أمريكي، فإن القضايا السياسية لن تطرح للنقاش حسب العبادي ما لم يتراجع الأكراد عن الاستفتاء. جدير بالذكر إن سياسة العبادي وإدارته للأزمة نجحت حتى الآن ، خصوصاً وقد استخدم كل ما لديه من قوة ناعمة، وتعامل بثقة كبيرة وهدوء، حيث حاز على تأييد الداخل والخارج، الأمر الذي أدى إلى تغيير موازين القوى اختياراً واضطراراً في آن وهو ما ينبغي قراءته عند التفكير بحل شامل للأزمة الراهنة.