العراق يشبه نوري المالكي

العراق يشبه نوري المالكي
آخر تحديث:

بقلم:علي الصراف

نوري المالكي هو أفضل رئيس وزراء محتمل للعراق العظيم. انظر في كل منافسيه المحتملين، ولن تجد رجلا يشبه العراق مثله. وفي الواقع، فإنه هو الذي صنع هذا “العراق الجديد” بعرق جبينه وكدّ يديه ورجليه وجهاده المتواصل منذ أيام تفجيرات الكويت وبيروت.

السنوات الأولى للغزو كانت سنوات فوضى مطلقة. بين العام 2003 والعام 2006، كان نوري المالكي يحفر في طين العراق لكي يستخرج منه مشروعا قابلا للبقاء. الاستقرار بدأ عندما تولى رئاسة الوزراء في العام 2006 وهو ما استمر حتى العام 2014. سلمه في النهاية إلى تنظيم داعش قبل أن يغادر المنصب. كان ذلك مجرد تحصيل حاصل. ليقول للجميع: إذا كان هذا ما تريدون، فخذوه. وظل العراق كئيبا وحزينا وممزقا ويتيما من بعده. حتى عادت الفرصة إليه من جديد. ولو أنها دارت سبعين دورة، فإنها ستعود إليه، في نهاية المطاف.

بعض أطراف العملية السياسية، التي صنعها المالكي بنفسه، يخشى أن تكون عودته إلى رئاسة الوزراء سببا لانهيارات جديدة. هؤلاء يتجاهلون حقيقة أن الانهيارات لم يعد لها متسع للمزيد. فحتى لو أراد المالكي أن يقيم مأتما للعراق، فجثمان العراق المسجى في الاقتصاد والخدمات وفوضى الصراعات الطائفية والمنافسات على الحصص بين الولائيين وغيرهم، تثبت أن العراق مات. وإكرام الميّت دفنه.

المالكي هو الذي صنع النظام القائم ورعاه ودبر شؤونه ووزع أدواره وقسّم حصصه. وما من قوة سياسية موجودة الآن على الساحة تستطيع أن تنكر أن المالكي لعب دورا في مكانتها. ولولاه ما كان للكثير من الكيانات السياسية القائمة أثر على الإطلاق.

نوري المالكي هو أفضل رئيس للوزراء في العراق. لأن العراق يشبهه تماما. إنهما نسخة طبق الأصل.العراقيون هم الذين انتخبوه أول مرة. ثم انتخبوه ثاني مرة

نظام المحاصصات الطائفية هو نظامه حصرا. وهات اليوم من يستطيع الزعم أنه لم يستفد من هذا النظام. الكل كانت له “حصة” فيه. ولو لم يكن المالكي قد أصبح ثريّا بما يكفي، فلربّما كان من الجائز له أن يفرض ضريبة شخصية على كل هذه الكيانات التي استنفعت من حكومتيه.

مئات من المليارات ضاعت تحت سلطته. اختفت من الميزانية، كما يقول البعض. لم تظهر في الدفاتر أصلا. والسبب هو أن النظام السياسي نفسه صار كريما مع الجميع. يعطي “الكتل” ما لم تكن تتخيّله، ويساعد في الإنفاق على ميليشياتها، ويتدبّر لها أغطية مناسبة لكي تنمو حتى أصبحت “قوى” تركض وراءها “الجماهير” وتتبعها كما يتبع الـ.. تابع صاحبه. ولئن نشأت بين “دولة القانون” التي يقودها المالكي ودول القانون الأخرى منافسات وتناحرات، فقد ظل يصبر على جحودها ونكرانها له، إذا جحدت وأنكرت. ومن “دولة قانون” واحدة، نجح المالكي في إنشاء “أمم متحدة” من دول الميليشيات والجماعات الطائفية والأحزاب التي استولى كل منها على حصة في الدولة، ومناطق سيطرة خاصة بها، تحكمها كما تشاء، ويكون لها شعب خاص بها، يؤمن بها، وينتخبها، فعلت ما فعلت. وما “الإطار التنسيقي” سوى جزء من تلك الأمم المتحدة، التي رعت ممارسة الأعمال الخيرية من خلال القصف والاغتيالات وتقاسم المقسوم “شرعا”.

ويُتهم النظام الذي قاده المالكي بالفساد. وهذه تهمة باطلة. هو لم يخترع الفساد. رأى العراقيين راغبين به، فلم يجادلهم فيه. أعطاهم الفرصة لكي يحولوه إلى نظام علاقات شامل، حتى بين الأخ وأخيه. ولو لم يكن الفساد نبتة مزروعة في نفوسهم لما كان لسقيها أي أثر.

ولماذا النكران بشأن الطائفية نفسها؟ فلو لم تكن “الوطنية” العراقية مجرد مزاعم ومبالغات وأكاذيب، لما أصبحت الطائفية حقيقة قائمة. ولما أصبحت نظاما لا سبيل لهدمه. حيثما تدور تجده أمامك. عراق “المكوّنات” قتل الوطنية وسحق شعبها، وجعلها أسلابا لبعض مشرّدي التصورات الزائفة.

يقال إن “الشعوب على دين ملوكها”. وفي الواقع فإن المالكي هو على دين الطائفيين الذين يؤمنون بالمرجعيات الطائفية، ويركضون وراء رجال الدين الأتقياء الصالحين، كما يركض الـ.. مؤمن وراء سيده. وجدهم يلطمون ويطبرون ويضربون ظهورهم بالزناجير، ويبكون على الحسين من أجل الهريسة، ولا يبكون على أنفسهم، فاعتبرهم شعبا مثاليا.

ثم انظر في أعداد الذين صوتوا للأحزاب الطائفية في انتخابات أكتوبر الماضي. وقل لي ماذا ترى؟ فقط احسب. ولا تنصب خيمة تحليلات لا معنى لها. سوف تكتشف أن هناك ما لا يقل عن عشرين مليون نوري المالكي.

“الدولة العميقة” التي يقال إن المالكي يتحكم بها، ليست من صنعه. “الحزب القائد” هو مؤسس الدولة العميقة. وكل ما فعله المالكي هو أنه غيّر أدوات عملها. الأولى كانت تحكم بالتقارير والوشايات، والثانية صارت تحكم بالحصص. الأولى كانت دولة مخابرات، والثانية دولة ولاءات داخلية وخارجية.

لم يفرض المالكي على أي وزارة أي شيء. فقط تركها لكي تؤدي دورها الشكلي. على الأقل لأنه كان يريد أن يكون رئيسا لكيان مؤسسي يمنح منصبه الأبهة اللازمة، نظير مؤسسات مماثلة لدى دول العالم الأخرى.

وطبائع الاستبداد التي أهلت العراقيين لكل أوجه النفاق والدجل، هي التي جعلتهم، وجعلت زعماءهم السياسيين، يمارسون “التقية” في مزاعم الولاء للعراق. إنهم موالون لفسادهم فقط. وإيران انتهزت الفرصة، بأن قدمت لهم الفساد على طبق من فضة. فغرقوا بالفساد وأخذوا الطبق.

تخيل لو أن المالكي أصبح رئيسا للوزراء في السويد، أو مستشارا في ألمانيا. هل تعتقد أن السويديين سوف يسمحون له بإقامة نظام محاصصة كالنظام القائم في العراق؟ هل تعتقد أن الألمان سوف يسمحون لأي مسؤول أن ينهب قرشا واحدا من الأموال العامة؟

مستحيل. سوف تقول. ولكنك لن تجرؤ على القول إن شعبا فاسدا هو السبب. والأمر لا علاقة له بالتقدم أو التخلف. إن له علاقة بكيف ينظر الشعب إلى نفسه. إن له علاقة بالأخلاق العامة، أو بما يسمّى “القيم” و”التقاليد” و”الأعراف”. تستطيع أن ترى قبائل لم تعرف من الضياء إلا ضوء الشمس، وهي على أخلاق أرفع. أفهل في العراق نور؟ أفهل فيه شيء يشع أكثر من نوره المالكي؟

نعم، صحيح، يوجد “مشاغبون” يحلمون بعراق آخر. أو يعتقدون زورا وبهتانا “أن هذا ليس هو العراق العظيم”. ولكن، انظر في الأرقام. ولا تهذ هذيان الذي يشتري الوهم بالحقيقة.

نوري المالكي هو أفضل رئيس للوزراء في العراق. لأن العراق يشبهه تماما. إنهما نسخة طبق الأصل.العراقيون هم الذين انتخبوه أول مرة. ثم انتخبوه ثاني مرة. وهو يستحقهم بمقدار ما هم يستحقونه ثالث ورابع وعاشر مرة، حتى يغيروا ما بأنفسهم. يقول المثل: “وافق شنٌّ طبقة”. ويقول العراقيون: “اتدهدر القدر ولقى قبغه”.

لا يوجد عراق آخر إلا في المخيلة. “العراق العظيم” هو نوري المالكي. سبحانك اللهم سبحانك. يخلق من الشبه أربعين.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *