الجريمة لم تعد مستغربة في العراق نظير التساهل معها فعشائر تتقاتل في بلد متحضر كارثة بكل المقاييس بل مجس يدل على جملة إنهيارات أفضت بنا الى هذا التردي
شاعت الرشوى ومخالفة القانون بمجانية تثير التساؤل: عن الإفادة من طاقات الشباب المعطلة.. بطالة تفرط بخزين مدخر… متى نستثمره؟ الإجابة في علم الغيب
الدين والقومية والعشيرة رحمة في مجتمعنا.. كي تحمي المستجير وتعود المريض وتتواصل مع الفرحان وتواسي الحزين وتعيل المعوز لكن سوء التعامل طاش بالحقيقة عن هدفها
اللواء الحقوقي هادي رزيج*
تتنوع أسباب الجريمة، وتتعدد مشاربها، وتتباين مصادرها، لكن مصبها واحد.. في دمار الفرد والمجتمع، تسكب حمماً من منصهر بركاني، ذابت فيه الصخور مستعرة، من جوف الأرض الى سمت السماء، لتقع على رأس العراقيين، طيلة آماد من أفق الزمان والمكان، تداعت بين حروب و“حصار – عقوبات دولية” وإحتلال وإرهاب وفساد وإحتقان طائفي، أفضى الى فصم عرى الولاء الوطني، الذي إستبدل بالتمظهرات الطائفية والعشائرية، وتلك هي أم الجريمة، وجذر إنفلاتها من عقال الدستور، الذي يتحيد، أمام إكتساح الطائفية العشائرية له.. تقوض أركانه…
لا مقارنة بين دستور، ذي قوانين مبنية على فهم دقيق للفرد والمجتمع وفق توصيفيهما الـ “نفسي – سايكولوجي” و“الإجتماعي – سوسيولوجي” وبين شريعة الغاب المكفولة عشائرياً، تنصف القوي وتسحق الضعيف “الحق للسيف والعاجز يريد إشهود“.
حاضنة الجريمة
توفر الطائفية والعشائرية، ظروفاً مشجعة على التهور، الذي يتجلى من لازمة، يرددها المراهقون خلال إنفعالاتهم الهوجاء: “فصلك تلمه العشيرة درهم درهم“.
ثمة عشائر تطبق بيت الشعر “لا يسألون أخاهم حين يندبهم.. في النائبات على ما جاء برهاناً” محرفين القول عن مواضعه؛ إذ يزيحون معنى هذه الحكمة التي يراد بها توثيق صلة الرحم، وليس “إنصر أخاك ظالماً مظلوماً” وهو مبدأ جاهلي، هذبته الرسالة المحمدية السمحاء، عندما حددت نصرة الظالم بالنصيحة؛ كي يرتد عن غيه، وليس بالركض قبله نحو الطرف الآخر، من دون تبصر ولا روية.
هذا ما جرته علينا العشائرية والطائفية، اللتين تنامتا سعياً نحو الخراب، في ظل ظلام التنشئة الأسرية المغلوطة، التي باتت تصدر للمجتمع أجيالاً من أطفال ومراهقين وشباب، مهيؤون للجريمة.. على أهبة إرتكابها؛ لما تلقاه عقولهم الغضة، من مسوغات تحثهم على الإنفعال، بل ثمة شرعنة طائفية للجريمة، تجعلها مقدسة.
تتضافر التربية العشائرية، التي توقظ في الفتى جينات البداوة وإستقواء الغاب، مع التقديس الطائفي لمصادرة الآخر ونسفه حد الإبادة! وهذا بأبسط تعريف واعٍ له، يعني “الجريمة” عندما نقشره من أضاليل باطلة غلفه بها بعض الدهاة المغرضين الذين مرروا أهدافهم الفئوية ومطامعم الشخصية، التي تنتهي بمنافع لهم وحدهم فقط، من دون سواهم في كل مستويات ودوائر الإنتماء؛ فهؤلاء لا يعنون بالتداخل الإيجابي لتراتبية تلاحق الدوائر.. العمل والمجتمع والوطن والدين والإنسانية، إنما يستغلون حتى تلك “الأقانيم – الأصول” المقدسة، لتدعيم مصالحهم.
التستر الآثم
بالمحصلة الجريمة الفردية والجماعية، لم تعد مستغربة في المجتمع العراقي، نظير التساهل معها؛ فعشائر تتقاتل في بلد متحضر، و“الشرطة حواجيز” كارثة بكل المقاييس… ومجس يدل على جملة إنهيارات أفضت بنا الى هذا التردي.
لم يعد الأمر مؤطراً بعشيرتين تقاتلتا في محافظة ما، إنما تمزق محيط أطار الفلاتر الناظمة عندما أبدت جهات طائفية إستعدادها لأخذ زمام المبادرة، بديلا عن الدولة، صرنا نترحم على سبعينيات الشرطي العجوز الذي يقدم حاملا “صوندة” لينفذ أمر إلقاء القبض على أعتى المجرمين، وفعلا يسوقه من ياقة قميصه؛ بهيبة الدولة،… المجرم منقاد لشرطي عجوز متهالك، قادر على سحقه، يخضع لهيبة الدولة، التي تمكن شرطياً عجوزاً من سوق مجرمٍ متعافي العضلات، إلا إذا شعر المجرم بأن ظهره فارغ.. هواء، عشيرته تتبرأ من الجريمة؛ حين تنتظم السلطات صفاً متوالياً.. العشيرة تقف معه في الأفراح والأتراح،… عرس ختان مرض عزاء…، أما إذا إرتكب فردٌ جريمةً ما أو إعتُديَ عليه، فهي تؤازره بالتوجه نحو مركز الشرطة وتوكيل محامٍ للدفاع عنه، ولا يحق لها محاسبة المعتدي أو التستر على إبنها الآثم.
نمو طائفي
المشكلة تبدأ من اركان البيت، حيث الأسرة تنمي الإتكال التام على العشيرة وليس على الدولة، وهذا نمى الطائفية تبعا لترابطهما الجدلي، فلا عشيرة من دون طائفة ولا طائفة من دون قومية، وتتبلور “أثافي– ركائز” القدر الثلاث تنسف سلام المجتمع وتتلاشى سعادته!
الأمر الذي أدى الى التهديد المجاني و“جلسات الدية – دواوين الفصول” التي تعقد بسبب ومن دون سبب، بل ثمة فصول دفعت بملايين الدنانير، نظير دهس سائق لديك سائب او سواه… “حق قوي من ضعيف“.
في حين هذه الأقانيم الثلاثة.. الدين والقومية والعشيرة، رحمة أوجدها الله في مجتمعنا؛ كي تحمي من يستجير بها وتعود المريض وتتواصل مع الفرحان وتواسي الحزين وتعيل المعوز، لكن سوء التعامل معها طاش بالحقيقة عن هدفها.
شاعت الرشوى ومخالفة القانون بمجانية؛ تجعلنا نتساءل: عن الإفادة من طاقات الشباب كيد عاملة وخبرات معرفية.. كلاهما معطلان.. لا العمال يجدون فرصاً ولا حملة الشهادات.. بطالة تفرط بخزين الشباب المدخر… لمن ندخره ومتى نستثمره؟ الإجابة في علم الغيب، داخل بلد ريعي.. لا موارد فيه سوى النفط؛ مما يوجب تفعيل الثروات الأخرى.. الصناعة التي تصدأت معاملها والزراعة التي أجدبت أرضها الخصب والسياحة والفوسفات والزئبق والزجاج و… قائمة طويلة من ثروات تسد الحاجة المحلية وتشغل الأيدي العاملة وتطلبها السوق العالمية بإقبال عهدناه ولدى إقتصاديينا إطلاع مكثف عليه.
لذا أقترح تشكيل لجان مشتركة من الدولة ومنظمات المجتمع المدني، تضم أعضاءً إجتماعيين وإقتصاديين وقانونيين، لإستخلاص توصيات توجيهية لتقويم العمل التضامني رسمياً وأهلياً، في الحد من سلطات العشيرة التي تعاظمت فائقة صلاحيات الدولة، وإيجاد قنوات لتسريب طاقات الشباب، بما يعود عليهم وعلى المجتمع والوطن بالنفع، لأن “الخير يخير” يشغلهم بالجدية التي تحقق وجودهم وتسهم برفاه الشعب؛ فينشغل بالخير عن الشر نابذاً المشاكل، ميالاً للمحبة، إلا من كان ملتاثاً بمرض الجريمة، وهذا يقصى عن المجتمع بسطوة القانون ومكانه أما مستشفى الأمراض العقلية أو السجن، بحكم القضاء او الطب العدلي، اللذين لا يحق لعشيرة ولا طائفة مناقشتهما “رفع القلم وجف الحبر” في سبيل القضاء على نسغ الشيطان.