تدخل العقوبات، وإقامة الحدود ضمن المعاملات، ذلك إذا علمنا بأن الفقه الإسلامي ينقسم إلى: معاملات وعبادات، والاثنان يدخلان ضمن مجال الفروع أو الفقه، وتقليد رجل الدِّين المجتهد جائز فيها، دون الأُصول غير الخاضعة للتقليد والرَّأي، كأساسيات: التَّوحيد والنُّبوة والمعاد، ومذاهب تضيف لها أصلين آخرين: الإمامة والعدل، على حد اعتقاد الإمامية، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والمنزلة بين المنزلتين، حسب المعتزلة، والمذهب الأخير لا يُعنى بالفروع، فالقاضي عبد الجبار (ت415هـ) كان معتزلي الأُصول شافعي الفروع، والمفسر محمود الزَّمخشري (ت 538هـ) كان معتزلياً وحنفياً.
لا يحسب التقليد بالعبادات خطراً على الإنسان ولا المجتمع، فهي حق الله على عباده، بقدر خطورة التَّقليد بالمعاملات، في ما يخص الحقوق بين النَّاس بعضهم بعضاً، وقد فرقت كُتب الأحكام السُّلطانية والخراج والحُسبة بينهما بالعبارة: «حق الله وحقوق الآدميين» (أبو يعلي، الأحكام السُّلطانية). فالمسلم يفهم أن مَن يُقلده يصبح واسطة بينه وبين الله تعالى، فقيل «ذبه برقبة عالم وأطلع منها سالم»، و«خلي بينك وبين الله مطوع»، لكنَّ الخطرَ عندما يُشرّع رجال الدِّين للعقوبات الدُّنيوية، ومنها «القتل»، ويقلدهم فيها المنفذون!
يحكم الفقهاء في قضايا عدة بالموت على مرتكبيها، كالرِّدَّة، المقرونة بالإساءة للذات الإلهية أو النَّبوية. لا نتحدث عن صحتها أو خطئها، بل عن الفوضى في التَّشريع، فكل فقيه يصدر حكماً، ويُحدد تنفيذه. فما هو دور المحاكم الرَّسمية، والحق في دفاع المحامين وتمييز الحُكم؟! نُفذت عبر الماضي والحاضر أحكام الفقهاء في العشرات مِن الضَّحايا، والمنفذ يعتبره واجباً شرعياً.
كانت تلك الأحكام توكل زمن الخلافة للإمام، وهذا ما احتجت به «داعش» لتنفيذ أحكامها على أنها «الخلافة»! لكن بوجود الدّولة الوطنية لابد أن يُصار، وخصوصاً في البلدان مختلطة الأديان والمذاهب، إلى قانون الدَّولة الواحد، شأنه شأن السِّلاح محتكر للدولة.
نقرأ في كتب الفقهاء العديد مِن هذه الأحكام، مثلاً: حوى «الشِّفا بتعريف حقوق المصطفى» لأبي فضل عياض (ت544هـ) جملة أحكام بالقتل بما يدخل تحت «ازدراء الدِّين»، تبدأ بالقتل وتنتهي بالجلد على مَن أساء لصحابي أو أُمهات المؤمنين، ونقرأ في «الصَّارم المسلول على شاتم الرَّسول» لابن تيمية (ت728هـ)، الأكثر والأشد مِن العقوبات.
كذلك نجد أحكام القتل بحق مَن أساء للذات الإلهية والنَّبوية، ولأحد الأئمة الاثني عشر، والسيدة فاطمة (ت9هـ)، بل أضاف علي بن الحُسين المرتضى (ت436هـ): «قتل المتهم في الحال» (كتاب الانتصار)، أي على سامعه قتله بلا تردد. وورد مثل هذا الحُكم في «جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام» لمحمد حسن النَّجفي (ت1850)، وغيره مِن الكتب المعتبرة عند معتقدي مذهب المرتضى والنَّجفي.
وعند ابن زهرة الحلبي (ت 585هـ) حُكم المسيء القتل في الحال، «وليس على مَن سمعه فسبق إلى قتله مِن غير استئذان لصاحب الأمر سبيل» (غُنية النزوع). وكذلك مثل هذه الأحكام ورد عند فقهاء أصبحوا ولاة أمر الدَّولة، فتكون رسالتهم الفقهية تحت النَّظر، مثل الخميني (ت1989) في «تحرير الوسيلة»، قال بقتل المسيء مِن قِبل السَّامع، إذا أمن عدم الضَّرر به، بل لا يحتاج القاتل إلى إذن.
هذا غيض مِن فيض، مما ورد في رسائل الفقهاء، قديماً وحديثاً، بل الأكثر أن ترى فقهاء المذاهب يتنافسون، مَن منهم أكثر صرامةً في إصدار الحُكم، وتنفيذه. قلنا ما يعنينا في الأمر، أن هذه الأحكام شائعة في رسائل الفقهاء، التي تملأ المكتبات ومعارض الكتب، خارج قوانين الدَّولة وقيود السُّلطة، وتتيح للمُقلِّدين( بكسر اللام) تنفيذها بعبارة «على سامعه».
يأتي الخطر، في زمن انتشار التدين ضمن الصحوة الدينية، ويكون التنفيذ جاهزاً عند ضعف السُّلطة، وقد اغتيل بشرٌ كثيرون بما هو ليس بعيداً عن تلك الأحكام، غير المنضبطة بقوانين الدَّولة. فبقى المتهم تحت رحمة مُفسري ومنفذي الفتاوى، وربَّما سمعوها مِن ألسنة الخُطباء والوعاظ فأسرعوا للتنفيذ.
في الاختلاف بتفسير الحُكم، كاد لسان الشَّاعرة ليلى الأخيلية (ت نحو 80 هـ) يُقطع، عندما أنشدت للحجَّاج الثَّقفي (ت95هـ)، ويبدو أنها لم تحسن مديحه فأمر بقطع لسانها: «إذا هبط الحجَّاج أرضاً مريضةً/ تتبع أقصى دائِها فشفاها/ شفاها مِن الدِّاء العضال الذي بها/ غُلامٌ إذا هزَّ القناة سقاها» (الكاساني، بدائع الصَّنائع)، فأحضر لها الحاجب الموسى، فنبهته بأن مولاه أمره بقطع لسانها بالعطية، فعاد مستفسراً، فتبين أنه أخطأ تفسير مفردة «القطع»، الذي يختلف فيه الفقهاء أنفسهم.
فكم مُقلِّدٍ سيخطأ بالفهم والتَّنفيذ، خارج القضاء الرَّسمي، في الوقت الرَّاهن على وجه الخصوص، ومَن قال إن القتلى ببلدان النِّزاعات الدِّينية، والاضطرابات الطَّائفية، لم يكونوا قد اتهموا مسبقاً بما شرعت فيهم رسائل الفقهاء؟! ليكتفِ الفقهاء بالعبادات، وتُـحصر المعاملات ضمن القوانين الرَّسمية، لتجنب الفوضى في الأحكام وتنفيذها، وبالتالي إشاعة العنف والتَّطرف.