مثل كثير من البشر تغيّرت عادات في حياتي وكُسرت أنماط مؤقتة ودائمة وذلك بموجب التعايش مع كورونا وتطورات انعكاساته المختلفة على الحياة العامة وحياة الأفراد.توقفت عن اهتمامات محدَّدة، واستجدّت لي اهتمامات سواها، فيما أُعيدت الحياة لاهتمامات كنت قد دأبت عليها في مرحلة معينة من عمري قبل التوقف عنها، فاستعدت جانباً منها إنما بأشكال ومستويات تختلف عن تلك التي كنت أوليها لتلك الاهتمامات وأستفيد منها، وهذا أمر متوقع بحكم الفارق في الدوافع وإمكانات التعامل مع هذه الاهتمامات.
من بين هذه الاهتمامات التي جرت استعادتها في ظرف كورونا المتابعات العلمية بحقول مختلفة أخذت تستغرق جانباً من مشاغلي في القراءة والمتابعة، وهو اهتمام كنت قد دأبت عليه في شبابي، أشير هنا إلى أن أول مقال صحفي كتبته في حياتي، عام 1975، كان عن كتاب علمي مترجم عن الفيزياء، كان المقال عرضاً للكتاب الموجَّه لقارئ عام والصادر حديثاً حينذاك. نشرت بعده عدداً من القراءات لكتب أخرى، كان ما هو أساسي في تلك الاهتمامات هو العلم ثم فلسفة العلم وعملها بحقول مختلف العلوم قبل أن أنصرف عن ذلك الاهتمام.
أخيراً، وفي ظل تغيّر حياتنا بموجب تحدّيات كورونا، وجدت فجأةً أن ذلك الاهتمام عاد ليستحوذ على اهتمامي من جديد، لقد بدأ الأمر مع التلفزيون قبل الكتب، فالمشاهدة الجادة لما هو جاد شكل أكيد من أشكال القراءة.
واقعاً كنت منذ سنوات قد توقفت عن المتابعة الروتينية للتلفزيون. لم يكن انفضاضي عنه موقفاً متماهياً مع ما يؤكده مثقفون مختلفون من قرف باتجاه التلفزيون، قدر ما كان نتاجاً لانصرافي للعمل ومتطلبات العيش أولاً ولانصراف حاجتي ثانياً لاهتمامات لا مجال للتلفزيون بينها. حالياً أعتقد أن التلفزيون، بقنواته المتخصصة بحقول شتى، وبالانفتاح الفضائي الحر، مصدر ثقافي مهم.
خارج وقت القراءة والكتابة ذات الصلة بعملي الثقافي فإن الحاجة الفعلية لمتابعة أخبار كورونا والحياة كانت وراء عودتي لمشاهدة التلفزيون. لكن هذه الأخبار والتقارير لم تلبث حتى أخذت نمطاً مستقراً، ولم ألبث أنا حتى بتّ أخشى على تماسكي النفسي جرّاءها فتحوّلت عن القنوات الإخبارية لقنوات أخرى تُعنى بعلوم الحياة والطبيعة بالإضافة إلى قنوات الأفلام السينمائية، فيما تَواصل تركيزي بمواقع الصحافة في الانترنت، ومعها بعض المواقع العلمية المتخصصة، وذلك لصالح الاهتمام بمقالات الرأي حصراً ومعها التحليلات والتقارير العلمية وعروض الكتب الصادرة الحديثة، ومن بينها الكتب العلمية، وذلك كلما صادفني عرض لكتاب له صلة بحاجاتي واهتماماتي.
من بين كل هذا نهضت الحاجة، بالنسبة لي، إلى متابعة آراء علماء وخبراء متخصصين بمجالات تلبي الحاجة المتزايدة لهذه الآراء بفعل ظروف كورونا ومحنة العالم معه. ومن هنا وجدتني أعود لاهتمام كان مبكراً في متابعاتي الثقافية.
في هذه الأزمة العالمية، في مرحلة الوباء، أعتقد بوجوب إعلاء سلطة العلم على سلطة السياسة. يحصل هذا حين تكون لسلطة السياسة من الحكمة والتعقل ما يلجم نزوعها للغرور، وحين تكون سلطة العلم مستقلة فعلاً ومترفعة على الهوى السياسي والمصالح الخاصة، وحين تكون هذه السلطة مهنية خالصة. السياسة ينبغي لها أن تفسح المجال لسلطة العلم في عالم خسر الكثير جراء اندفاع سلطة السياسة ومعها سلطة المال والاقتصاد في أنفاق الجشع والطغيان والاستئثار التي أوصلت الكوكب إلى أزمة حادة بمجال البيئة والصحة. بمقتضى هذا التصوّر لا يأخذ العلماء والخبراء دور السياسيين في قيادة العالم والدول، تنبغي طمأنة السياسيين!
السياسة في العالم يديرها السياسيون، لكن توجهات السياسة وقراراتها وإجراءاتها ينبغي لها أن تمرّ بفلتر العلم وبمصالح الحياة والصحة وسلام الكوكب والطبيعة. هذا ما يمكن أن يصون السياسات العامة للدول والعالم من النتائج غير المسؤولة لفوضى السياسيين ولشراهة المال الموجّه للسياسة في الغالب.
إن من أسوأ أخلاق السياسة اعتقاد السياسي حين يكون في مركز القرار الحكومي أنه عارف بكل شيء. مع كورونا حصلت نتائج كارثية في بعض دول الغرب وسواها جراء هذا التفكير السياسي المبالغ في ادعاء فهمه في كل شيء، وأدت إلى استفحال الوباء وانتشاره وزيادة أعداد ضحاياه.
قبل شهرين كان الرئيس البرازيلي بولسونارو ، مثلاً، وهو زعيم شعبوي ويميني متطرف، يفضّل أن يخفف من خطر كورونا وذلك بالقول:” إنها محض (انفلونزا عادية)، مؤكداً أن البرازيل (بمناخها وبشبابها) قادرة على تجاوز (هستيريا الوباء)، وهو مفهوم شعبي كرسته الدعاية المفرطة بتفاؤلها ولم تسعفه الوقائع بما يؤكد صوابه.
وقبل بولسونارو لم يكن الرئيس ترامب بالبعيد عن هذه (الثقة) التي تمنَّع جراءها عن الفحص وعن الحاجة لعُدَد الوقاية حتى أطيح بها، بالثقة المبالغة، ومعها أطيح بدعاواهما، هو وزميله البرازيلي، بعد تطورات المرض وتداعياته في البلدين.
لم يجرِ الإصغاء لصوت العلم. يعتقد السياسي أنه الأقدر من العالِم والخبير على ضبط التوازن ما بين متطلبات العلم ومتطلبات الاقتصاد والسياسة، يعتقد أن العالِم ينظر من زاوية علمه حصراً، وهو تصور صحيح إلى حد ما، لكن اعتماده والتأسيس عليه بإقصاء الرأي العلمي هو الخطأ. كان يجب الإصغاء لمنطق العلم، كما يعبّر عنه خبراء العلم، والإصغاء لمنطق الاقتصاد، كما يراه خبراء الاقتصاد، ويأتي بعد ذلك دور السياسي في إقامة التوازن مراعياً أفضلية الصحة العامة وسلام الحياة.
قبل الوباء كان التدهور يتفاقم في مجال البيئة والمناخ وحفظ توازنات الطبيعة وسلامها. كان العلم يحذّر، وكانت السياسة والتكنولوجيا لا تريد السماع. كانت المخاطر تأتي من الزيادة المضطردة في ارتفاع نسب انبعاث ثاني أوكسيد الكربون، وكان هذا الحال هو ما جعل انخفاض الانبعاثات بعد الوباء، بفعل الإغلاق، تزداد نسبها، ويكون هذا الانخفاض الحسنة الوحيدة لكورونا.
في تقرير تحليلي قدمته جامعة إيست انجليا، بالمملكة المتحدة، ونشره موقع ساينز ديلي، يُنظر إلى هذا الانخفاض في الانبعاثات على أنه” من المرجح أن يكون مؤقتاً، ذلك أنه لا يعكس تغيرات هيكلية في الأنظمة الاقتصادية أو أنظمة النقل أو الطاقة” حسب البروفيسورة كورين لو كويري من جامعة إيست أنجليا التي قادت فريق التحليل، والتي تحمّل قادة العالم مسؤوليات مستقبلية في الحفاظ على الانخفاض والاتعاظ من الدرس، تقول لو كويري إن:” مدى تأثير قادة العالم في تغير المناخ عند التخطيط لاستجاباتهم الاقتصادية بعد كوفيد 19 سيؤثر في مسارات انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون العالمية لعقود مقبلة”.
تتوقع هذه الخبيرة انه” توجد فرص لإحداث تغييرات حقيقية ودائمة، وتكون أكثر مرونة في مواجهة الأزمات المستقبلية، وذلك من خلال تنفيذ حزم التحفيز الاقتصادي التي تساعد أيضًا على تحقيق الأهداف المناخية، خاصة بالنسبة للتنقل، وهو ما يمثل نصف الانخفاض في الانبعاثات أثناء الإغلاق”.
هذا ما يستطيع العلم فعله، أن يؤشّر وأن يقدّم الحلول للمجتمع وللسلطات. من يصغي؟
السياسة وحدها القادرة على أن تمضي بالكوكب نحو الاندحار أو التوقف عند لحظة صفاء إنساني لإنقاذ العالم والحياة من هذا المصير الذي تدفعنا فيه الشراهة من دون شعور بالمسؤولية.