(( حينما يسيرون اللصوص في الطرقات آمنين ، فمعنى ذلك … أن النظام لصّ كبير )) .
ظاهرة الفساد ، بأنواعه الإداري أو المالي أو حتى الأخلاقي ، هي وليدة ظروف معينة واستثنائية أحيانا ً كثيرة ، ومن هذه الظروف هي الحروب والتي تكون نتيجتها الفوضى وغياب القانون … لكن ! الأخطر منه ، وكما يؤكد عليه المعنيون أكثر هي الفساد العقلي أو الفكري والذي إن أصاب به أصحاب الفكر وهم من المتنورين والمثقفين ، حيث التحرّر منه ، أي من فكر الفساد سيكون صعب للغاية … الكثير من الدول وخاصة الذين تعرضت إلى حروب وانقلابات وفوضى وغياب القانون ، عانوا من ظاهرة الفساد أشّد معاناه ، في الكثير من الأوقات يتم النشر والإعلان عن قائمة طويلة وعريضة للدول التي تنتشر فيها الفساد وحسب الأولوية ، أي زيادة نسبة الفساد …
أما عن العراق ، فالحديث لا يكون فيه أي حرج ، حول ظهور هذه الظاهرة ربّما منذ عشرات السنين ، لا سيما بعد انتهاء الحُكم الملكي بانقلاب دموي ، تلتها المزيد من الانقلابات والأنظمة الاستبدادية خاصة ً بعد السبعينات وخوض نظام صدام العديد من الحروب ، بدءا ً من الدخول في معركة طويلة مع الأكراد ، حينما كانوا يطالبون بالحقوق المشروعة لهم ، وبعدها أو اثناء الحرب مع أيران واحتلال الكويت والانتفاضة الآذارية إلى سقوط بغداد في 9 / 4 / 2003 … هذه المغامرات والحروب ، كانت لها تأثير مباشر على انتشار ظاهرة الفساد وديمومتها بشكل مفرط ومفضوح ، وربّما بشكل علني ، بعد سقوط النظام والاحتلال الأمريكي ، وإدارة بريمر ، بعد اتخاذ الكثير من الخطوات غير الملائمة حينذاك ، والذي قيل ، بأنه ( بريمر ) ، كان الأكثر تبذيرا ً أو فسادا ً بأموال العراق … مرّ العراق ، بعد مرحلة بريمر ، بتشكيل خمس حكومات بدءا ً من حكومة الدكتور أياد علاوي ، تلتها حكومة الدكتور أبراهيم الجعفري ، مرورا ً بحكومتي نوري المالكي ، وصولا ً إلى الحكومة الحالية برئاسة حيدر العبادي ، غالبية هذه الحكومات بكُل أجزاءها من الوزارات والمؤسسات والهيئات ، لم تتمكن لحد الآن من التحرّر من ظاهرة الفساد أو مكافحتها وفق الضوابط أو الشروط أو التعليمات العالمية ، لا بل زادت أو انتشرت بشكل متزايد أو مفرط من حكومة إلى أخرى وحسب التسلسل … البرلمان بدوراته الثلاث وقبلها الجمعية الوطنية والمجلس الوطني ، لم يتمكن أو تتمكن من ممارسة دوره أو دورها الرقابي بالشكل الصحيح وحسب الدستور ، هذا يرجع في اعتقادي عن ضلوع الكثير من البرلمانيين في صفقات الفساد ، حيث كما هو معروف بأن البرلمان مُكون ٌ من كتل برلمانية ، سياسية ، حزبية ، دينية ، مذهبية ، وقومية ، الكثير لهم ارتباط مباشر مع الحكومة برئاستها ووزراءها ، والتي كانت لها ضلوع مباشر أيضا ً في صفقات فساد ، وفي حالة وجود صوت ٌ برلماني ، أو أكثر، ينادي ، أو يمارس مهامه في مكافحة الفساد من خلال دوره الرقابي ، سيتعرض إلى أكثر من تهديد ومن جهات عديدة لإسكات هذا الصوت ربّما مقابل صفقة من نوع خاص ، أو ينتهي به المطاف ثمن حياته … رغم ذلك ، كان هنالك محاولات من خلال الحكومات المتعاقبة بعد السقوط لمكافحة ملفات الفساد الكثيرة ومن الجهات ذات العلاقة المتمثلة بهيئة النزاهة على سبيل المثال لا الحصر ، لكنها كانت محاولات خجولة ، وربما كانت بالتنسيق مع الجهات المتنفذة ( الحكومة ) حيث محاولاتها دائما ً بالضّد من الاجراءات القانونية لمعاقبة الفاسدين وخاصة الكبار ، بدءا ً من رأس الهرم ومَن لَفَ لفه ، من المحاولات الحكومية والتي تحدث بها السيد صالح المطلك أثناء توليه نائب رئيس الوزراء ، حيث تم تشكيل اللجنة العليا لمكافحة الفساد برعايته وحسب قوله في لقاء تلفزيوني ، لكن تَبَيَن وبعد تأكيد السيد المُطلك نفسه ، بأنها أي اللجنة كانت محمية سياسية ومن الحيتان الكُبار من الفاسدين أنفسهم ، وَلَم يتمكن حسب قوله من التقدم في مجال مكافحة الفساد … يجب أن لا ننسى دور وتدخل العشائر ورؤساءها في حماية السياسيين الفاسدين العراقيين من خلال إيواءهم والدفاع عنهم متذرّعين بالقيم والأصول العشائرية ، حيث يعرض الفاسد نفسه دخيلا ً بين صفوف العشائر ، خير مثال لحماية أمثال هؤلاء هو لجوء السيد طارق الهاشمي إلى إقليم كوردستان بعد محاولات المتابعة واللحاق به من قبل أقطاب الحكومة ، حيث تمكن من الذهاب إلى الإقليم بصفة الدخيل لدى السيد مسعود البارزاني رئيس إقليم كوردستان ، وهذا ليس حصرا ً على الأخير ، هذا ما أكد سيادته في إحدى اجتماعاتنا معه ، حينما كُنا ممثلين عن الإقليم من الوزراء والبرلمانيين في مصيف صلاح الدين ( بيرمام ) ، حيث أصبح في موقف محرج لإيواء وقبول دخالة السيد الهاشمي ، علما ً أن الأخير كان لا يُحَبِذ َ حتى حضور المناسبات التأبينية والتي كانت تُقام في بغداد / البرلمان العراقي لكارثتي حلبجة والأنفال السيئتين الصيت من قبل نظام صدام .
إذا ً ! هكذا وصل حال الفساد في العراق إلى درجة ً لتُصبِح الفاسدين أقوياء أكثر من الحكومة والاجهزة الأمنية ، لا بل تَمَكَنَ الحيتان من تحجيم دور مؤسسات مكافحة الفساد ، وأحيانا ً كثيرة تصل الأيادي إلى حَرق الملفات المعنية في عقر تلك الدوائر المعنية بمكافحة الفساد … ويجب أن لا ننسى بأن المحاكم المختصة أيضا ً باتت تحت السيطرة ليصل الأمر إلى الادعاء العام والمحكمة الاتحادية ، خير مثال على ذلك القرار الأخير بعدم دستورية إلغاء مناصب رئاسة الجمهورية بعد أكثر من عام على قرار الإلغاء من مجلس الوزراء وتصويت البرلمان عليه ، هذا ناهيك عن صُدور قرارات في صالح الذين اُتهموا بالفساد حتى يكونوا أحرارا ً يسرحون ويمرحون في الطُرقات آمنين … لكن ! الغريب في الأمر وأحيانا ً كثيرة وعلى مستويات عالية ، بأن الذين يقدمون أو ينشرون ملفات فساد لجهات معينة وخاصة الصُحفيين ، يتعرضون هُم إلى المسائلة وربما المُحاكمة ، مثلما حصل في محاكمة أحد الصُحفيين الأكفاء والذي نَشَرَ ملفات فساد في هيئة الاعلام والاتصالات ( وزارة النفط الثانية في الدولة عادة ً ) ، والتي تتعامل مع الفضاء بالأجور العالية ، فيما يخص شركات الهواتف النقالة ، أو الفضائيات ، ومحطات الراديو ، وشبكات الأنترنيت ، والتي كانت ، أي الهيئة تفوح منها رائحة قوية للفساد ولحد الآن ، ومن المقرّر أن يتم استجواب رئيس الهيئة لدى البرلمان العراقي وفق قواعد الدستور والنظام الداخلي للبرلمان …
خلاصة القول .. والحق يُقال بأن الحكومة الحالية برئاسة العبادي ، كانت ومنذ ُ تشكيلها تواقة ً في مكافحة الفساد وحسب الامكانيات المتاحة ، لكنها اصطدمت بِجدار وربما بجدران كونكريتية تم إنشاءها من قبل حيتان الفساد ، لذا كانت ولحد الآن الخطوات أو الاجراءات في هذا المجال باتت ضئيلة جدا ً ، مما اضطرت الحكومة أن تستعين بالأمم المتحدة والجهود الدولية منها الشركات المتخصصة في مُكافحة الفساد والفاسدين ، وفق مذكرة تفاهم معها ، وسط اعتراض منقطع النظير من قبل الأحزاب الدينية ، تحت ذريعة التشكيك بالقضاء العراقي ، وإهانة الشخصيات ، الغريب في الأمر بأن الفاسدين أنفسهم يستعينون بالدول الإقليمية لمحاربة وإسكات الأصوات التي تعلو ضد الفساد ، ومن الجدير بالذكر ووفق مذكرة التفاهم مع الأمم المتحدة ، من المقرّر وصول محققين دوليين إلى بغداد ، للنظر في التحقيق لملفات الفساد ، بدءا ً من رؤساء الوزراء السابقين والوزراء وكافة المسؤولين ، نعتقد وإن كانوا جادين في هذه الخطوة وبعيدين عن شبكات الصيد للكبار لهم ، سيتمكنون من تحديد ظاهرة الفساد في المرحلة الراهنة ، آملين أن يتم القضاء عليها في المستقبل القريب . بقي لنا في نهاية هذا الموضوع المهم جدا ً ، أن نشير إلى ما تم التعليق كتابة ً على لوحة رسم على شكل كاريكاتير (( في كاريكاتير لأحد الرسامين المشهورين ، رأى الناس شخصا ً وراء قضبان حديدية ، كل الأنظار كانت متوجهة للرسم الكاريكاتيري بأن الشخص المقبوض عليه هو فاسد كبير ومسجون للمحاكمة ، لكنهم تفاجأووا ، بأنه أي المقبوض عليه ، كان الذي كشف ملفات الفاسدين )) .