الفشل المحتوم للاسلام السياسي

الفشل المحتوم للاسلام السياسي
آخر تحديث:

 

  حسن متعب   

تحدثت في مقالي ( العراق بعد حين) عن حتمية فشل الاسلام السياسي والدولة الدينية، وأغلب التعليقات التي وردتني، كانت غير منسجمة مع الفكرة، بعضها يعتقد اني اتحدث عن نهاية الاسلام، وبعضها يؤمن ان وضع العراق قياسا الى ماهو عليه الان من تسلط للاحزاب وميليشياتها، ومن تدخل قوي لايران في الشان العراقي ومن ثم وجود قوى الاحتلال على راس الهرم، سيبقى كما هو عليه لوقت طويل بل وربما يتجه للاسوأ، وقد تكون النتيجة هي تقسيم العراق الى ثلاث دويلات..

الحكم المسبق بفشل الاسلام السياسي يقودنا مباشرة الى تساؤلات تتردد على السنة الكثير من المفكرين والمثقفين وايضا بين بعض العامة من الناس وهي: هل ينسجم الاسلام مع الديمقراطية، وهل يؤمن الاسلاميون بها؟ .. هل يتماشى الاسلام مع الحداثة بكل ما تعنيه من بدع وسلوكيات وتقاليد في معظمها غريب مع ما تعارف عليه المسلمون؟..

لماذا نربط الاسلام بالديمقراطية؟.. وان لم نجد صيغة لهذه العلاقة، هل اذن يمكننا القول اننا لانريد حكما ديمقراطيا؟.. هل من الطبيعي والمنطقي ان ننادي بسبب ايماننا بالاسلام بحكم دكتاتوري، هل يمكن للعالم المتمدن ان يقبل بندائنا بحكم دكتاتوري؟..

وهذه في الحقيقة اسئلة كبيرة ومستفزة، والحديث عنها لن يحظى بقناعة الكثيرين من المسلمين من مختلف المذاهب، وسيحاولون دائما ايجاد من يمكن ان نضع اللوم عليه خاصة في ظل الصراعات المذهبية السائدة الان والتدخل الاقليمي والدولي بشؤوننا، وأيضا في ظل العداء القائم بيننا كمسلمين بشكل عام والغرب، ولكني اعتقد اننا لو اعدنا صياغة الاسئلة بالشكل التالي سنجد من يتفهم بهدوء وسنقترب من الصورة اكثر: هل تنسجم المسيحية مع الديمقراطية؟.. هل يؤمن رجال الدين المسيح بها؟.. وهل تتماشى المسيحية مع الحداثة بكل بدعها؟..

لماذا اخترت المسيحية ولم اختر الهندوسية او البوذية او اليهودية مثلا؟.. اولا لانهما اكبر الديانات الموجودة على كوكبنا، وثانيا لان طبيعة الصراع السياسي والحضاري القائم بين الشعوب المقهورة والفقيرة ونحن منها، وبين عالم الهيمنة والسيطرة المتقدم والغني والحر والسعيد، يتمثل اساسا في صراع خفي بين الاسلام والمسيحية، ولعلي اسهب قليلا حين اقول ان الارهاب الاسلامي لم يضرب الصين واليابان مثلما ضرب اوروبا واميركا؟.. واختصر ايضا ان العالمين الاسلامي والمسيحي مرا بتجارب الدول الدينية، حين لم تكن في العالم ثمة شرائع وقوانين اخرى سوى شرائع الله عبر كتبه المقدسة، وكل ما ينافي ذلك يعتبر بدعة وهرطقة وزندقة، والغرب كما الشرق آنذاك اضطهد الفلاسفة والمفكرين والعلماء الذين ياتون بكل ماهو جديد فقُتِلَ الكثير وحُرِق وعُذِّب الكثير منهم، وظلت النظم الدينية تحاول المحافظة على مكاسبها دون ان تنتبه الى مسيرة التطور ونمو الوعي الانساني وان كان بطيئا، الا انه كان متناسبا مع حقبته الزمنية، ومع الانتماء الديني ضاعت الهوية القومية مع انها كانت عاملا محددا للصراع القائم قبل الاديان او في الاقل قبل ظهور الاسلام، ولهذا السبب تبادل الرومانيون واليونانيون والالمان وغيرهم قيادة امبراطوريتهم القائمة على اساس ديني، وتبادل العرب والفرس والاتراك والمغول والتتار والسلاجقة قيادة الدولة الاسلامية، وللان فانه يحق لاي مسيحي من اي قومية كان، ان يصل الى مرتبة البابا في الفاتيكان مثلما يحق لاي مسلم سواء عربي او افغاني او شيشاني ان

يكون مرجعا اسلاميا، وعبر التاريخ الاسلامي كان يحق لاي شخص ينطق بالشهادتين ان يجد فرصته للوصول الى السلطة..

ولكن المسيحية اليوم تعيش في اجواء الديمقراطية وتتناغم مع الحداثة وما بعدها، ورجال الدين المسيح اصبحوا دعاة للديمقراطية، فكيف حصل ذلك مع شريعة هي اقرب في تعاليمها وتقاليدها الاصيلة الى الاسلام؟.. وشهدت عبر تاريخها من التعصب الديني ما هو اكثر قسوة مما يعيشه المسلمون الان، فسابقا ودون استعمال المفخخات والاحزمة الناسفة وانما بالسيف والمقصلة فقط، كان ضحايا التعصب المسيحي بمئات الالاف، وفي هذه المقارنة علينا ان نفهم ان التعصب الاسلامي لغاية الان اهون كثيرا من التعصب المسيحي سابقا، والتسامح الاسلامي كان على مر العصور السابقة اكثر واعلى مرتبة من التسامح المسيحي، اذ كان اليهود والنصارى واخرين يعيشون في ظل دولة الاسلام في مراحل كثيرة دون تمييز ودون اهانة، ولكن كان يستحيل على المسلم ان يعيش في كنف الدولة الدينية المسيحية..

العقدة الاساسية في الحكم الديني اسلاميا كان ام مسيحيا، انه يخلق ويديم الصراع مع الاخر، الدولة الاسلامية سابقا بعصريها الاموي والعباسي ومابعده كانت تخوض صراعا مع الامبراطورية المسيحية البيزنطية لاسباب دينية بحتة، ولعل الحروب الصليبية من ابرز حوادث التاريخ وخير شاهد على ذلك الصراع، ولكن هذا العصر وظروفه وتحدياته وتشابك مصالحه وتعدد تناقضاته ليس كما هو في الماضي، وبعد النهضة الحضارية وشيوع النظم الديمقراطية وغياب الدولة الدينية المسيحية تغيرت اسباب الصراع وكذلك تغيرت اتجاهاته، لم يعد الصراع بين الاسلام والمسيحية قائما على اسس دينية فقط بل توسع الى صراع سياسي ذو طابع قومي بعد تفككل الدولة العثمانية وسيطرت الغرب الاستعماري على اشلائها، ثم توسع الان اكثر ليتخذ اسلوبا تامريا باشغال المسلمين بصراع اسلامي اسلامي بطابع مذهبي يحركه الغرب باصابع خفية ولاهداف مركبة، بين طموح الهيمنة والاستغلال وبين الدفع باتجاه التحديث..

داعش وهي كيان مرتكز على الشريعة، ومثلها طالبان والحكم القصير للاخوان في مصر والوهابية في السعودية وحكم الشيعة في ايران ومن ثم العراق، كلها تخلق اعداءها لحظة ولادتها، وتعيش صراعا لاحدود له ولايمكن تجنبه بين العولمة والحداثة ومابعدها بكل نتاجاتها من عالم حر وديمقراطية ومساواة في الحقوق بين الرجال والنساء وانتهاء القدسية، وبين الجمود والانغلاق ومحاربة كل ماهو جديد بحجة عدم انسجامه مع الشريعة ومع الاخلاق والتقاليد والاعراف، مثلما حاربت الكنيسة سابقا كل ما يعيشه المجتمع المسيحي الغربي اليوم، فالكنيسة ورجال الدين المسيح لم يكونوا طيعيين وبسطاء ومتعاونين مع التشريعات التي ازالت سطوتهم يوما بعد يوم، والى الان هناك من الكنائس مايعارض مثلا حق الاجهاض وحق العلاقات والانجاب قبل الزواج، وزواج المثليين، فيما اقرها البعض على مضض ولكنها في كل الاحوال ستجد طريقها قريبا نحو التطبيق في الاقل في بلدانهم، وهذه الامثلة قد تبدو للقاريء الان امثلة مستهجنة ولايمكن القبول بها وتدعو الى الرفض المتسرع وبقوة، ولكن علينا ان نعرف ان غالبية المسيحيين كانوا يرفضونها ويقاومونها ويعارضونها ويتهمون من يدعوا لها بالزندقة والفساد وغير ذلك، ولانها امثلة مستفزة فعلينا ان نعرف اذن مقدار الفرق بين اصول المسيحية وشريعتها التي تقترب كثيرا من الشريعة الاسلامية في مجالات عدة، فهما يصدران من مشكاة واحدة، وبين ما خسرته اليوم بعد اقرارها وموافقتها على كل ما يتعارض وشريعتها من تحرر للمرأة ومساواتها مع الرجل وحق اختيار العقيدة والعبادة وغير ذلك الكثير، فالمسيحية لم تكن عبر تاريخها المعروف كما هي عليه اليوم، والرجوع الى تاريخها يعطينا ادلة كثيرة على مطابقة الصورة التي يعيشها المسلمون

اليوم، فقطع الرؤوس والتمثيل بالجثث هي ليست وليدة اليوم او نتاجا خالصا للتشدد الاسلامي، انما هو نتاجا بشريا جرى في اماكن عديدة وفي ديانات مختلفة، ولكنها حقبة تاريخية مضت وتجاوزتها المجتمعات التي عرفت ان طريقها نحو التقدم والعيش الآمن الكريم، يجب ان يتخطى القيود والتشريعات الجامدة؟..

هذا الفارق بين الشريعة المسيحية وبين العالم المسيحي الان يجيبنا عن اسئلتنا الاولى، ويدفعنا للتفكير في : كيف تقبلت الكنيسة ورجال الدين المسيح الانسحاب من اضواء السلطة والسطوة ومن ثم القبول بالتشريعات والقوانين التي يتعارض بعضها مع تعاليم الدين المسيحي؟.. هل انزل الله لهم رسولا جديدا دعاهم الى التغيير؟.. هل قاد هذا التغيير رجل دين مسيحي؟.. الجواب لا، انما المجتمع وطليعته من مفكرين وسياسيين ونشطاء مدنيين تنويريين، هم الذين نحتوا بالصخر وناضلوا وقدموا التضحيات حتى أجبروا الكنيسة يوما بعد يوم على التراجع وقبول هذه المستجدات التي كانت يوما ما بدعا يقتلون ويعدمون ويحرقون باسم الله من ينادي بها، وخلاصة القول هنا ان المسيحيين خلقوا لهم دينا يتماشى مع متطلباتهم ومع التحديثات في الحياة الاجتماعية ولم يعد بامكان رجال الدين والدين نفسه قادرا على ايقاف هذه الرغبة في التحديث والتطوير، اذ لا يمكننا ان نتخيل ابدا بعد كل القوانين والتشريعات الاممية فيما يخص التفرقة العنصرية وتحرير المرأة ان تعود الكنيسة الى سابق عهدها في اعتبار المرأة ملكية خالصة للرجل يحق له المتاجرة بها، كما يمكن ان تعتبر ان تجارة العبيد امر سماوي وحق من حقوق الانسان، ولكن رغم كل ذلك، هل فقد المسيحيون هويتهم الدينية؟.. وهل اختفى انتمائهم الديني لصالح الحداثة والانتماء العالمي الجديد؟.. هل فقدوا ايمانهم بالله وبوجوده وقدرته وعظمته؟..

هذه المقاربة تعطينا صورة لايتقبلها الكثير من المتزمتين او المتشددين ناهيك عن رجال الدين عن مستقبل الانسان المسلم الذي لايمكنه في كل الاحوال الا مجاراة عصره والمشاركة فيه، وتحقيق هذا ليس بالامر السهل على الاطلاق فهو يستوجب اضافة الى التضحيات الجسام نهوضا بالوعي الاجتماعي ومغادرة الجهل وعدم الانسياق وراء التفسيرات والعادات والتقاليد التي ولدت في زمان غير هذا وفي ظروف غير هذه، ولنا في كلمة الامام علي (ع)(لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم) تفسير مجتهد وعبرة لاجيال قادمة..

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *