الفلسفة بمواجهة أخطاء العالم

الفلسفة بمواجهة أخطاء العالم
آخر تحديث:

علي حسن الفواز

من الصعب الحديث عن ذاكرة واضحة للسرديات، أو حتى عن هوية معيارية لها، تُبرر وجودها في سياق الادعاء بامكانية أن يكون السرد علما، أو ممارسة نقدية، أو حتى قوة نظيرة للتاريخ أو تمثيلا له، بوصفها الاقرب الى  لعبة(برومثيوس) تلك التي تحوّلت فيها سرقة النار الى صياغة للحكمة، والثورة، ولوعيٍ تمرد على ألوهة التاريخ، وعلى رواته ومقدسه وسلطته.. مع الذكرى الرابعة عشرة لرحيل بول ريكور يمكن استعادة ذلك الحديث، والتعاطي معه بوصفه شغفا فلسفيا، وحتى(ثوريا) له قدرة الانفتاح المُفارق على الادب والتاريخ والفكرة والسياسة، وفي سياق اقتراح ممارسة نقدية تنفتح لها آفاق التأويل والتخيّل، حيث تتبدّى عبر تمثلات كبرى، وصيغ كبرى تنطوي تحتها فاعليات كبرى للتأويل، حيث تقوم بربط التأويل المسيحي البروتستانتي بالتأويل السياسي واللساني والسيميائي، مثلما هو ربطها بفاعلية اللغة، بوصفها شكلا وخطابا كما يقول سوسير، وهذا مايعني حاجتها الدائمة لفاعليات البلاغة في المجاز والاستعارة…

من اكثر اشتغالات ريكور في هذا المجال هي البلاغة السردية، وصولا  الى مايتبدّى فيها من الفائض الدلالي، والذي يعني في جوهره التأويل، لاسيما في الغرب الذي لم يعد فيه التاريخ والمقدّس مهيمنان، وأن سياق التفكير فيهما يستدعي قوة السرد بوصفه فعلا واعيا، وتمثيلا معرفيا للقراءة والكشف..

استعادة ريكور للفعل البلاغي هي استعادة لقوة الخطاب في المعرفة، وفي النظر الفلسفي، والذي يُتيح للباحث والقارىء مجالا مفتوحا للنظر في حمولات الافكار، وفي احالات الدلالات، وحتى في مايتعالق بهما من معانٍ، وأحسب أن تلك الاستعادة هي أكثر بواعث التحريض على وضع التأويل الذي اقترحه بول ريكور في سياق يتجاوز فيه نفسه ومنجزه، إذ تضعنا قراءته أمام مسؤوليات تجديد قراءته، وفي سياق من يبحث عن معالجات لقضايا اكثر اشكالية على مستوى اللغة التاريخ والهوية والدلالية.

فبقدر ما كان ريكور فيلسوف(المجاز)  حريصا على الفهم من خلال تأويل العالم، فإن ذلك التأويل لم يعد  ايضا قرينا عائما بفعل المجاز والاستعارة، بل بات أكثر شراهة في دفع الافكار المؤولة الى البحث عن مقاربات جديدة، وفي سياق تفعيل رؤيتها للعالم، ولمواجهة أزماته الاكثر تعقيدا، لاسيما أزمات الهوية والاختلاف والكراهية والحروب الاهلية، والتغوّل الرأسمالي، والصراع في اطار العنف الثقافي، بما فيه عنف الجماعات، وعنف اللغة/ الخطاب، والتي تحولت الى أخطر المصادر تهديدا لمركزية الغرب الثقافية والسياسية، وللكينونة المتعالية لأوربا.

اهمية ريكور في الفاعلية الفلسفية.

الاهتمام بفلسفة بول ريكور ينطلق من انسنته للفلسفة، ومن تجاوزها المثال الافلاطوني المتعالي الى التحقق التداولي القابل للدرس والنقد، وهذا الفعل اعطى للفلسفة طاقة الانفتاح على مواجهة الشر والاثم، وعلى فضح توحش الانسان الخطّاء في الواقع السياسي، وفي سرديات المُقدّس الانجيلي، وعلى تفعيل خطابية التأويل بوصفها خطابية معرفية، وباتجاه العمل على توسيع مديات تلك المعرفة عبر تداوليتها النصوصية، وعبر تيسير القبول ب(صراع التأويلات)  وبثنائية (الايديولوجيا واليوتوبيا) وهي تمثّلات تتفاعل فيها أطروحات السرد مع التاريخ على مستوى معرفة الزمان والهوية، مثلما هو تفاعلها في سياق تفسير النصوص والافكار والكتب المقدسة. تأثّره  بالوجودية الدينية لغابريل مارسيل جعلته أكثر اهتماما بالمشكلات اللاهوتية، وبتأويل خطاباتها، لكن تأثّره بظاهراتية هوسرل، وبانطولوجية هيدغر أعطته أفقا واسعا للتأسيس الثقافي والمعرفي للذات المُفكرّة والمؤولة، والتي هي ذات واقعية وجودية تعاني من عُقد الإثم السياسي، ومن المرجعيات اللاوعية للذات المسيحية التي تعاني من الإثم الاخلاقي، وكلا الامرين يضعان الانسان امام مشكلة الصراع الوجودي والميتافيزيقي، والبحث عن اشباعات سردية ونفسية ووجودية.

يدرك ريكور أهمية وجود المعنى بالنسبة للانسان، فللمعنى اهميته وضرورته بقطع النظر عن علاقته بصناعة الشر السياسي، والشر الاخلاقي، والشر الارهابي بلغة اليوم، والذي تحوّل الى مجال مفهومي للقراءة وللتداول، ولمعرفة خطورة تحوّل الارهاب الى عنف شمولي يهدد الذات والمكان والحضارة والهوية، بما فيه الهوية لأوربا التي يعشقها ريكور كثيرا. بعد مرور اربع عشرة سنة على رحيل ريكور نستدرك أهمية أطروحاته ومعالجاته لموضوعات الشر والاثم، وللهوية السردية، وللذات الأوربية، وهي قضايا وجودية بامتياز، وأن مرجعياتها الدينية لاتعني فصلها عن الواقع، ولا طبيعة النصوص وماتحمله من نقد للوعي الزائف، ومن علامات تمثيلية لذلك الوجود، والذي يحتاج دائما للمعرفة، والى الاقتراب من حيوية الوعي الباطني وفكّ طلاسمه عبر التأويل.

 إن ماذهب اليه ريكور يتجاوز كل تلك القراءة المحددة والقصدية، والى استعمالات تأويلية تستدعي كثيرا من الشك، حيث البحث عن المعنى العميق، وحيث ضرورة نقد ايديولوجيا الشر، والاقتراب من فكرة الايمان عبر مسآله الوضع الانساني، والدعوة الى استئناف الحياة دائما رغم الشرور والحروب والزيف، وباتجاه الاقتراب من (صراع التأويلات)  ومن فاعلية التحليل الاقتصادي كما عند ماركس رغم تقاطعه معها، أو من فاعلية التحليل النفسي كما عند فرويد، إذ خصص لهذا التحليل كتابا مهما حمل عنوان( عن التأويل.مقالات عن فرويد) فضلا عن اقترابه من التحليل اللساني- الاستعارة والمجاز والبلاغة- عبر كتابه( نظرية التأويل. الخطاب وفائض المعنى)

استعادة ريكور هي استعادة لكثير من تلك الاسئلة المعرفية التي تخصّ وجودنا، والتي تخصّ ايضا كشوفاتنا للتاريخ والنصوص، بوصفنا كائنات نصوصية، ولا نملك غيرها من وسائل لمعرفة العالم، ولمواجهته، وللتمرد على آثامه واخطائه، واعادة الثقة بالايمان بوصفه قوة فائقة تتحصن بالمعرفة الفلسفية، وباللغة وقوة بلاغتها، مثلما هو تحصنها بالدين الذي حاول ريكور أن يحرر خطاباته من الاوهام، ومن لاهوت الاستعباد الذي كثيرا ما وظفته قوى الطغيان السياسي والايديولوجي لصالح حروبها وآثامها… 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *