الكاتب في محنته

الكاتب في محنته
آخر تحديث:

 محمد جبير

الكاتب، سواء كان موهوبًا أو قليل الموهبة، هو قيمة ثقافيَّة في المجتمع، له حضور وفاعلية وإنتاج، وهو بذلك يقدّم خلاصة ما عنده من أفكار وتجارب، ليكون فاعلًا في البناء والتغيير الاجتماعي وبثّ الأفكار الحضاريّة والإنسانيّة، من هذا المنطلق يحظى مثل هؤلاء الكُتّاب برعاية الدولة على المستويات كافّة، لكي لا يكون ضعيفًا وينهار في مواجهة الفاقة أو العوز ويقرّر الاعتزال والاعتكاف والانطواء الذاتي، بمعنى آخر ينسحب من دوره الإنساني الفاعل ليكون هامشًا منسيًا.أجد نفسي مضطرًّا إلى إثارة هذا الموضوع، بعد أن يأخذ كلّ كاتب من كُتّاب العراق في نبش ذاكرته بحثًا في مسببات رحيل الكثير من الأصدقاء الذين كانوا ضحية العوز والمرض، إذ لم تسعفهم إمكانيتهم المادّية أو نفدت مدّخراتهم التي ادّخروها لمواجهة طوارئ الحياة التي تأكل كلّ المدّخرات، ولا تنتهي إلّا بنهاية هذا الكاتب أو ذاك، في هذه اللحظات نقف نستذكر إبداعهم، ونكتب المراثي، وننشر الصور في حالات مختلفة تذكيرًا بعمق الصداقة التي لم تنفع في وقت الشدّة أو المحنة.لماذا نترك الكاتب في محنته يصارع مصيره وحيدًا؟ لماذا لا نقف مجتمعين لنصرة هذا الكاتب في أزمته؟ أكتب هذه السطور وأنا أتذكّر كيف استنفد حميد الربيعي وأسعد اللامي كلّ مدّخراتهم لتجاوز أزمتهم الصحية، وأجروا العمليات والفحوصات داخل العراق وخارجه من دون أن يطرقوا باب مؤسسة من مؤسسات الدولة أو منظمة من منظمات المجتمع المدني، ورحلوا بعزّة نفسهم، ولم يقف أحد معهم، ولا أعني التحديد بهذين الاسمين، وإنّما أعني جميع الكُتّاب في بغداد والمحافظات ممن رحلوا بصمت يحملون معاناة المرض. والسؤال الذي لا بدّ من إثارته الآن: هل بالإمكان إسعاف وإنقاذ ما تبقّى؟ أم نترك الرحى تطحن من تطحن، وتبقى المراثي عنوان الوفاء؟

الأحياء من الكُتّاب ممن يعانون من أزمات صحية لا يحتاجون إلى ذلك، وإنّما يحتاجون مساعدتنا في تعزيز تشبثهم بالأمل، الأمل الذي يبقيهم على قيد الكتابة والإبداع، إذ لا يمكن للكاتب الذي يصرخ بوجوهنا في وسائل التواصل الاجتماعي، ويعلن عن سوء وضعه الصحّي الذي يحتاج إلى إجراء عملية بسيطة لا تكلّف سوى «8500» دولارا، وهو لا يملك هذا المبلغ في الوقت الحاضر، لكنّه عرض رواية جاهزة للنشر أنجزها مؤخّرًا، وإنّه مستعد للتنازل عن حقوق النشر للدار التي تمنحه المبلغ، إلّا أنّ دور النشر في العراق هي دور بالاسم، لكنّها في الحقيقة هي عبارة عن دكاكين لبيع الكتاب، تقتات على دم الكاتب، لم تستجب ولا دار لتلك الصرخة التي أطلقها ذلك الكاتب، وللحقيقة هذا الكاتب ليس قليل الموهبة ولا من أنصاف الموهوبين، وإنّما كاتب موهوب بحقّ، وفرض اسمه في العراق وخارجه، وترجمت بعض أعماله القصصية والروائية إلى لغات أجنبية، وفاز قبل سنوات بجوائز عربية مهمّة، يحلم الكثير من الكُتّاب بنيل تلك الجوائز، شعرت بالحزن الشديد وأنا أتابع ما ينشره على صفحته في الفيس، وتحوّل وضعه النفسي الذي تجسّد في اتّخاذ قرارات على المستوى الشخصي، منها العزلة ومقاطعة المجتمع الثقافي، لكن أشدّ ما أحزنني هو قراره بغلق صفحته إلى إشعار آخر بعد أن شكر وزير الثقافة على تكريمه بملبغ «500» ألف ما يعادل « 300» دولار، بمعنى أنّ المتبقّي هو «550» دولارا.

هل لنا أن نفكّر في تجاوز المحنة وكيف؟ هذا الكاتب ينتمي إلى منظمة ثقافية إبداعية، لها مكانتها الخاصة والمتميزة، وتضم الآلاف من الأعضاء، ولديها مشاريع تدرّ عليها موارد مالية تجعلها قادرة على مساعدة الكُتّاب والأدباء في تجاوز محنهم التي يمرون بها مهما كان نوع هذه المحنة، صحية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، وذلك عبر تأسيس صندوق إسناد الأدباء، هذا الصندوق لا يأخذ من موارد الاتّحاد المختلفة حتى لا تختلّ ميزانية الصرفيات، وإنّما تؤخذ من الأعضاء كافّة، فإذا افترضنا أنّ عدد الأعضاء هو «3000» عضو، يدفع كلّ عضو اشتراك سنوي قدره «10000» دينار، إذا تمّ ترحيل نصف مبلغ الاشتراك هذا فسوف يدخل لهذا الصندوق «15» مليون دينار، هذه كخطوة أولى، وهناك خطوات أخرى ممكن يقوم بها الاتّحاد من خلال الفعاليات الأخرى التي تدرّ موارد على الاتّحاد، وبذلك ترتفع مدّخرات الصندوق إلى أرقام تسهم في مساعدة الكُتّاب على تجاوز محنهم، بعد صياغة شروط وضوابط وآليات الصرف الخاصّة بهذا الصندوق، وتشكيل لجنة من القانونين من الأعضاء للإشراف والإدارة على الصندوق بعد وضع نظامه الخاصّ، وعرضه على الهيأة العامة لغرض مناقشته وإقراره. في الختام، هل أنا بحاجة لذكر اسم الكاتب؟ لا أعتقد ذلك، فهو صديق الجميع، وكاتب مبدع كبير، أغنى الإبداع العراقي بالعديد من الأعمال الروائية المتميزة التي أمتعت وأسعدت متلقّيها، وهذا الكاتب هو مفرد من مجموع قد لا يمكنهم إطلاق صرخاتهم بصوت عالٍ، وإنّما يكتفون بالصمت، ويرحلون بصمت، ونبكيهم بالعلن في لحظة لا ينفع فيها البكاء ولا الرثاء.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *