علينا أن نميز بين الكلام الفراغ، والكلام الفارغ، وفراغ الكلام، والكلام المفارق، فلكل مفردة منها معانيها الخاصة، فما أعنيه بالكلام الفراغ، هو أن يؤسس الكلام نفسه فراغه.كما يؤسس الكلام نفسه إمتلاؤه. فالكلام الفراغ يدور في مكان متحرك، يكرر نفسه، ثم يقضي على أولياته إنه النار التي تأكل نفسها، كما لا اعني بالكلام الفراغ الكلام الذي لا معنى له، أو الكلام الذي يمكن أن يعاد إنتاجه ،ما اعنيه بالكلام الفراغ،هو امتلاكه لموضوع معين، ولكن الحركة والتغيير التي يجبر عليها المتحاورون تجعل كلامهم فراغا،بالرغم من وجوده.فالكلام الفراغ مسافة لا محددة لا تتعرف عليها إلا بتقطيعها لمحطات ومواقف استراحة، وعندما لا تكون مثل هذه المحطات تتحول المسافة الطويلة إلى لامكان،مما يعني إن اشتراك عدد غير محدد من المتكلمين في ممارسة الكلام وطرح الآراء المختلفة حول قضايا متشعبة،يعني الدوران في الكلام الفراغ.
صناعة الفراغ
الكلام الفراغ هو الذي لا يصل المتكلمون به إلى معنى محدد، أو لاينته إلى نهاية مقنعة، ويبقى قائما مادام يعني كلاما عن موضوع مفتوح، وهكذا تتوازن حركية المكان الواسع كالطرق السريعة والمولات الكبيرة والمطارات، والصحراء، والبحار، والتي يطلق عليها باللاأمكنة – بالكلام الفراغ، أي الكلام الذي لايُتحدد بهويته،بل بهوية مستخدميه اللامتعينين.وعندما يستبدل الكلام الفراغ بكلام الفراغ الآخر، يحل الفراغ الثاني محل الفراغ الأول، وهكذا يتكرر الكلام الفراغ في حياتنا دون أن نصل إلى حلول.فالكلام الذي يجري بين ركاب سيارة”الكيا” مثلًا، ينتهي دون حسم تبعًا لتكرار المسافة، لأن المسافة تتحكم بمفردات حياتنا اليومية وتقطعّها تبعا لتكرارها وتشابهها، دون أن نعي دورنا في صناعة الفراغ الذي نعيشه..قد يتوقف الكلام الفراغ عند نقطة معينة ثم يستبدل بكلام الفراغ الآخر عندئذ ينتهي كل الكلام بنهاية الرحلة.ويذهب المتكلمون كلا باتجاهه الخاص. وهكذا نجد هذا النوع من الكلام، أشبه بالنار التي تأكل بعضها البعض.تستعر عندما تتغذى بالحطب ولكنها تنطفئ في آخر المطاف مخلفة رمادًا.فالنار كلام مختزل قصيرة الجمل، ومباشرة، لأنها ترتبط (اي النار/الكلام) بحركة مكانية وزمانية متكررة،بينما ترتبط الأنواع الأخرى من الكلام بروابط غير محددة.
تفرض الأمكنة المستقرة على الشاغلين لها،أن يكون كلامهم منسجمًا وطبيعتها،حوار متتابع واستماع وانصات، وجمل طويلة، وسرديات قد تتداخل فيها بنى زمنية ومكانية مختلفة.وكلام المحاضرات من هذا النوع حيث على المحاضر ان ينهي محاضرته ضمن زمن محدد، كما تشترط طبيعة المكان والزمان وقواعد تنظيمها.ومن هنا نرى أن الكلام الفارغ يرتبط بعدم الجدوى منه، بالرغم من أهميته حيث الفضاء المتحرك يبدد أي تواصل.فهو كلام التنفيس، والرأي السريع، والكلام المفارق، ولايشترط الفهم الكامل من المقابل. نحن بصدد تشخيص ظاهرة معاشة ويومية،ت فرض على الكاتب نوعًا من الرؤية المحددة لطبيعة الحوارات اليومية حين يتكلم المشاركون عن المشكلات السياسية والاجتماعية، خاصة كلام الناس المهمشين الذين ينظرون دائما من الكوى الصغيرة للموضوعات السياسية والاجتماعية الكبيرة،بالرغم من انهم هم من يصنعها ويعيشون فيها ثم يكتوون بنارها، لكنهم لم يطرحوا كيفية العلاج لها، أنهم النار التي تأكل بعضها البعض عندما تتغذى بالكلام الفراغ دون أن يراكموا حرارتها.لم يشعروا أنهم كانوا ومازالوا حطبها.
وبدون موعد مسبق نجد أنفسنا داخلين في حوارات يومية غير مخطط لها، فنجد الجميع يشترك فيها، إلا أن كلامنا لايؤدي إلى حسم، أو إلى رأي محدد.هذا النوع من الكلام الفراغ، يملأ حياتنا اليومية،ونمارسه في كل منطعف منها ومجال، حتى ليكاد يكون الشغل اللساني الذي يوازي الكلام اليومي المحدد، والذي تعتمد عليه النظرية الثقافية. في سياق الكلام ثمة كلام إمتلاء، وهو ما يعني الوصول به إلى نتيجة، قد يتفق عليها المتكلمون أو يختلفون، وكلام الأمتلاء يعني المركزية التي تدور عليها مئات الصور التي ترتبط بمصدرية القرار.
لاشك اننا نرى يوميا أكواما من النفايات تتراكم أمام بيوتنا،وفي الطرقات،وبالرغم من الخدمات لاتزال الظاهرة منتشرة،وبمثل ما يشترك المسؤول بها، يشترك المواطن، هذا النوع من الصور ترتبط بالهوامش الحياتية التي بامكانها أن تعيد تشكيل وعينا الإجتماعي والسياسي باية ظاهرة مستشرية، ولكن مع وعينا بوجودها، وملامستنا لها يوميا، نكرر تراكم القاذورات في المناطق غير المخصصة لها، مصحوبة بكلام مكرر يؤكد الفراغ الذي يدور فيه، كما لو كنا نتكلم عن قضايا مصيرية في أمكنة لايمكن أن تكون هي الأمكنة الفاعلة في صناعة القرار.سرد المسار
في مشروع اعده للنشر،اسميته”سرد المسار” تحدثت في جزء منه عن ” الكلام الفراغ”، ذلك النوع من الكلام الذي يظمنه المؤلفون نصوصهم دون أن يكون من إنتاجهم،بل هو من إنتاج المجتمع،وتعود هويته التعبيرية لتراكم حالات تطلبت صياغة جمل ومدونات أصبحت نتيجة التكرار جملًا جاهرة للتبادل، فهذا النوع من السرد، أعني “سرد المسار”، يتضمن الكثير من الأبنية الجاهزة التي يدخلها المؤلفون في نصوصهم دون أن يكون ذلك من بنات أفكارهم، اي انه وليد التكرار، ومن هذه الأشكال الكلامية للفراغ، نعثر على أقوال جرى اختبارها، ومدونات لا مؤلفين لها، وصور قلمية يمكن تداولها، فالنصوص المكتوبة التي تصاحب مراسيم تنصيب المسؤولين، ومراسيم رفع العلم، ومراسيم استقبال الضيوف، ومراسيم تنصيب القضاة، ومراسيم استقبال السفراء، ومدونات التعاويذ، والقراءات الشفوية على الموتى، ومراسيم طقوس الأعراس والخطبة، والمدونات التي نكررها في التعازي والأفراح والأعياد وغيرها، هي نوع من الكلام الفراغ، ذلك الذي يولد تكراره اقولا تصبح لحمة لكلام آخر، بحيث يستعيرها المؤلف ويدخلها في سياق نصه كما لو كانت مادة تلحم المواقف المتناقضة.