جاسم المطير
انبثقت ، فجأةً، خلال الفترة الأخيرة كلمة (الكوليرا) في الخطاب الرسمي كــ(لعبة) قاتلة جديدة تضاف إلى (الألعاب) العراقية الأخرى على شاشات التلفزيونات الداخلية والخارجية. أصبحت نفس الكلمة ، أيضاً، في الخطاب الصحفي هدفاً جديداً من أهداف النضال الشعبي إلى جانب المجهول والمعلوم في حياة الشعب العراقي، اعني الحياة المخترعة بفعل البطالة، والارهاب، ونقص المياه، وحرية الكهرباء في الانقطاع ،والحرب ضد الخناثة الإرهابية المتمثلة بتنظيم (داعش)، واندفاع الشبان للهجرة عبر الارخبيلات والبحار والجبال، وغير ذلك من مشاكل العراق الراجف من البرد والحر والمحاصصة السياسية وغيرها من المنحنيات الطائفية والعسر الاقتصادي.
فرضت كلمة الكوليرا نفسها كعدوٍ جديدٍ بالغ البلاء على الشعب العراقي ، لكن ألغازها وطبيعتها لم تحدد لنا مجموعة نواقص الوحدات الحكومية ، التي مهدت الطريق ،من جديد، لظهور كلمة الكوليرا كنصٍ مدرّعٍ مخيفٍ لمواجهة الفقراء من أبناء شعبنا .
وزارة الصحة أول الوحدات المسئولة عن كل وباء مدرج بين صفحات تقارير موظفيها وخبرائها. امانة العاصمة هي ثاني الوحدات المسئولة عن كل وباء مبثوث بين الدمن في المزابل المنتشرة بالشوارع والساحات العامة والخاصة، في طول بلادنا وعرضها ، خاصة في ظروف تفاعل الهجرة الداخلية بنزوح 3 مليون مواطن عراقي إلى اشكال من المعيشة في خيام وكرفانات لا تتجلى فيها ابسط رموز العيش الصحي الصحيح و الكريم . وزارة الصحة وامانة بغداد كانتا منحلتين مفككتين خلال 13 عاما لا يتوحد في خبرائهما غير الغرام بالفساد المالي والاداري والتخبط في تزيين كل ما هو رث في وجودهما الوظيفي.
ليس في بلادنا ذاكرة طيبة عن وضعيات الاوبئة ،التي فتكت بها ،في تاريخها البعيد والقريب، لأن الطبقات الحاكمة لا تقيم غير (علاقة فراق) مع مصالح الشعب. لا يريدون إلاّ أنْ يكون الشعب طيّعاً لقائدٍ أوحدٍ، أو لحزبٍ وحيد، حتى لو كانت الزرازير تنشر الموت الطائر فوق رؤوس المواطنين العائشين في دوامة الإرهاب والبطالة والمرض. مع الأسف أننا نجد الحكام ملتهين بحركات التفاف ودوران حول مناصبهم ومكاسبهم، لا تنمو عندهم القدرة على قراءة المسافة بين مصالحهم الشخصية ومصالح الشعب العمومية لأن قراءتهم غالباً ما تكون سطحية ، غير عميقة ، غير مفهومة، وبالتالي ليست عندهم ممارسة صحية متفردة ،يمكن بها السيطرة على الامراض والاوبئة الفتاكة، مثل الكوليرا والملاريا والتيفوئيد والطاعون ، أخيراً انتشار الأمراض المسرطنة.
تناوبت موجات وباء الكوليرا في الظهور بالمدن والارياف العراقية ، منذ قديم الزمان قتلت آلاف العراقيين لكن حكام العراق لم يكونوا مكترثين .
اتذكر، الآن، إحدى قراءاتي، التي أشارت إلى موقفٍ جديٍّ من زائرٍ غريبٍ إلى بغداد قبل قرنين من الزمان، هو الرسام الانكَليزي (كير بورتر). مرّ ببغداد عام 1818 في وقت كان فيه والي بغداد العثماني منشغل بعمليات عسكرية لتأديب عشائر (عفك) و(حلبجة) المنتفضين بوجه ظلمهم. حذّر هذا الرسام أهالي بغداد بمقالٍ كتبه قال فيه ما معناه: انهم منشغلون بالملابس الفضفاضة والطويلة ، يضعون العمائم على رؤوسهم ، يلفون أعناقهم وصدورهم بالشالات، يضعون الخناجر في أحزمتهم، لكنهم جميعاً، لا يلتفتون إلى خطر الكوليرا المنتشر بالهند وهو لا يتردد في التسلل ،خفيةً، إلى العراق عبر مدينة البصرة .بالفعل لم يكن الحكام العثمانيون مهتمين بهذا التحذير الصريح لأنهم لم يكونوا من حاملي الهوية الوطنية العراقية، لذلك حلت الكوليرا بالبصرة في نفس العام ،وبالعمارة في العام التالي، وببغداد في العام اللاحق ومات بالشوارع آلاف الناس. كما مات بعد ذلك الآلاف أيضا في عشرينات وثلاثينات واربعينات القرن الماضي.
منذ 12 سنة يحرر المختصون الصحيون العراقيون والاجانب كما يوجه الصحفيون العراقيون تحذيراتهم حول تسلط (أكوام الزبالة) على أعشاش الكثير من الامراض ومنها (الكوليرا) وعن خطر انتقالها بواسطة البق والذباب والجرذان إلى الأطفال والشبان والشيوخ، نساءً ورجالاً، من الذين لا يجدون ماءً نقياً صالحاً للشرب وليس في المستوصفات دواء، ولا في المستشفيات علاج، وهم يعبرون عن استيائهم بصراخهم في المظاهرات والعرائض بأصوات عالية لا تسمعها لا أمينة العاصمة ولا وزيرة الصحة. ثم تحولت المعاناة من حالة اليأس والآلام إلى حالة مواجهة الصراع مع سم الكوليرا حين غزا أجساد حوالي 500 انسان عراقي في عدة محافظات مصابة بــ(داء الزبالة).
ختاماً أقول ليس بـ(الشب والكلور) وحدهما يحيا الانسان ,,! ليس بأمرٍ من رئيس الوزراء يتخلص العراقيون من الكوليرا ، لكن تعاون وزيرة الصحة وامينة العاصمة لوضع خطط تفصيلية مشتركة لتخليص المدن من الزبالة ونقلها ،يومياً، إلى أماكن حرقها أو طمرها ،والقضاء على البق والبرغش والقمل والجرذان، كما المطلوب ضمان تصريف المياه القذرة وتطبيق مقاييس النظافة العالمية .وإلا فأن وطننا الجميل يظل يمشي على ساقين نحيلين.