اللامُفكر به

اللامُفكر به
آخر تحديث:

ياسين النصير

يقتصر تفكيرنا دائما على ما نفكر به فقط عندما نبدأ بمعالجة أية اشكالية تصادفنا، ونهمل اللامفكر به ، بالرغم من وجوده كجزء من المفكر به. إن لم يكن هو الجزء الفاعل الذي يوسع مدارنا بالأسئلة والبحث. ولكن اللامفكر به ليس بالضرورة أن يظهر مباشرة  لنا، فهو يختفي تحت عباءة المفكر به، يختفي بمجرد ما أن بدأ تفكيرنا بالشيء الذي نتعامل معه،. والمسائل في هذا الباب كثيرة.ولنقل أنها مباشرة، ولكن التفكير بها ليس من مهمة أية آنية للتعامل. أن الشيء الذي نفكر به،  كالسفر من بغداد إلى البصرة مثلا، شيء يصبح عاديا عندما نقرر ذلك. ونستعد لتنفيذه لمجرد أن الرغبة في تنفيذه أصبحت ممكنة، لكن الشيء اللامفكر به، وهو جزء كامن في المسافة بين بغداد والبصرة، أن الطريق، يمر بمجموعة من المدن والمحافظات، فهي موجودة ضمن المفكر به- بغداد/البصرة،سواء كان الطريق يوصل بين هذه المدن و بغداد والبصرة، أو لايوصل، فهي موجودة بحكم انها تقع على مسارات الطريق الأساسية والفرعية. وموجودة أيضا بوصفها كيانات ترى وتعاش ويفكر بها ضمن القصد إليها، لذلك تصبح هذه المدن والقصبات والمحافظات وما يلحق بها ضمن المفكر به، بالرغم من أنها واقعيا من اللامفكر به.وثمة جانب من اللامفر به تستحضره هذه المسافة، حين نستعير السفر لأفكار أخرى، كأن نقول السفر اكتشاف، السفر رأسمال معرفي، السفر ثقافة،السفر تجديد، السفر قدرة على المواجهة، السفر حركة، السفر تطلعات ،السفر بحث، السفر كتاب مفتوح…الخ. كل هذه الاستعارات لم يكن مُفكرا بها عندما قررت أن أسافر 
وإذا ما أنتقلنا لمسألة أعمق من الجغرافيا والمسافات، وقلنا مثلا أننا نفكر بنيل الدكتوراه في موضوع الجنس، ودوره في نهوض المجتمع ، فالجنس من حيث المبدأ يشمل كل فعاليات الإتصال الإنساني، من تكوين الأسرة إلى بناء العلاقات، إلى التفكير ببيت للزوجية، إلى الرغبة في الإنجاب، إلى المصاهرة مع الآخر، إلى الثروة، إلى الآمان، إلى القوة…الخ. من المواضيع التي تتعلق بتركيبة الجنس انسانيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وحال التفكير به كموضوع اجتماعي واسع يتشكل لنا المدى الذي يقع خارج تصورنا الجزئي عندما نحصر التفكير به في الرغبة الجنسية فقط.أي أن يكون ميدان اشتغاله الجسد فقط. أما اللامفكر به في مسألة الجنس ، هو المدى الذي يشغله تفكيرنا. فعندما نستعير الجنس علاقات، نكون قد فكرنا ببناء مجتمع،الجنس إرادة، يعني بناء القوة الذاتية، الجنس علاقة، يعني تعميق دائرة التواصل، الجنس ثروة يعن تضافر بين الزوجين لتكوين رأسمال، الجنس حضارة، يعني تشييد معارف ذات قيم إنسانية، الجنس عمل، يعني أصبح ضمن دائرة الإنتاج، الجنس تجديد، يعني تحقق الجانب الآخر من كوني إنسانا اجتماعيا…الخ، إن استعارة الجنس يفتح مدى الاسئلة والمعرفة على حقول لم نفكر بها.
ونتعمق أكثر في حضور اللامفكربه في حياتنا الاجتماعية، عندما نفكر فقط بأن نكون بشرًا فاعلين، بمعنى أننا نرغب بأن نشارك في بناء المجتمع ثقافيا واجتماعيا عبر الدور الذي يتيحه لي الوضع الذي أنا فيه،فإذا كنت مثقفا،أو موظفا، أو عاملا، يجري التفكير دائما في تحسين شروط العمل كي يكون الإنجاز لعملي مثمرا، هذا المفكر به الذي يدفعني للتنافس مع الآخر ليكون موقعي وعملي في مجال استثماري انسانيا وماديا، وبذلك يكون تفكري منصبا على تحقيق تمايز اجتماعي وثقافي عبر العمل والعلاقات وتبادل المصالح والتساوق ضمن نسق الجماعة العاملة. أما اللامفكر به في هذا المجال، هو بناء الدولة والمجتمع، دون أن يكون ذلك مباشرة في عملي، إن التنظيم الذي تسعى إليه مجتمعات الحداثة، لايجري عبر وسائل مباشرة، معظم حلقات التنظيم تتم بطرائق تقنية وبأساليب حديثة يصعب على أي منا تصورها،أو التفكير بها، وتتولى هذه الجوانب اللامفكر بها في عملي بوجود دوائر تقنية خاصة مهمتها توفير العلاجات للمرضى، والأمن للمواطن وكفالة للحريات وتوزيع الثروات،واتاحة العمل للجميع،وتبادلا للخبرات واشراكا في المهمات والوظائف، وتوفير دخل للدولة، والائتمان على المصلحة العامة…الخ، كل هذه الجوانب اللامرئية مباشرة  وضمن عملي وأنا في ميدان اشتغالي هي من اللامفكر بها… للآن ونحن نتعامل مع اللامفكر به كما لو كان من جنسنا أو من طبيعة عملنا.  فاللامفكر به قد يخرج عن دائرة ما نعيشه، قد يرتبط بالفضاء، باكتشافات العلوم، بحقول الفلسفة، بتنوع مصادر الدخل، بالتنوع الإنساني ضمن الكوكب، فكل حقل من حقول اللامفكر بها يفتح مجاهل واسعة في التفكير، فليس من الضرورة أن يحضر الضديد في الحالة التي نفكر بها،بالرغم من وجوده كملازم لوجود الشيء.فالحطب يستدعي الموقد، والعجين يستدعي الخبز، والحياة تستدعي الموت، والزراعة تستدعي الغذاء، والدولة تستدعي اللادولة، والأمن يستدعي اللاأمن، وهكذا نجد اللامفكر به موجود في المفكر به، ولكنه يختفي وراء المعلن، دون ان يقوم المعلن بالأدوار كلها. 
ولنذهب إلى بعد عمق في تصورنا عن دور اللامفكر به ، ففي الفلسفة يكون اللامفكر به، هو النص السؤال وليس النص المقروء.  فلايمكنك أن تسأل عن الشيء كما يقول هايدغر، دون ان يكون السؤال نصا مبهما، فالشيء الواحد يضمن الأشياء كلها، بالرغم من اختلافها، هكذا يكون قياس الرياضيات والفيزياء، عندما نفحص قطرة دم المريض يستحضر كل الجسد البشري، ومكوناته، وما يخفيه، وعندما نفحص قطرة ماء تستحضر كل الأنواع المياه “وخلقنا من الماء كل شيء حي”  كل شيء هو اللامفكر به. من المياه  العذبة والمالحة والنتنة والخفيفة والثقيلة وما يتبعها وما يتعلق بها، يتكون اللامفكر به والذي يتحكم أحيانا، بوجودنا،وكينونتنا،وتعمقه استعارة الوجود فاللامفكر به، كينونة تعين مدى قدرتنا على الابتكار.فعن طريقه يمكن أن تفتح للمخيلة النشطة آفاق من التصورات المجسَّدة لاذهاننا. التصورات التي تحثنا على ابتكار الأسئلة، وليس على القناعة بما نعيشه.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *