باسل عباس خضير
هل يمكن ان نستيقظ يوما ونجد العراق بلد النخيل من دون نخلة واحدة ؟ , نعم هذا ممكن بل هو متوقع خلال عشرة سنوات اذا إستمرت السياسات المتبعة حاليا على وضعها القائم الآن , ولا تستغربوا هذا القول فقد كان العراق أرض السواد يحتوي على (40) مليون نخلة , والبعض يؤكد على انها كانت (60) مليون نخلة في الستينات من القرن الماضي , ثم خسر العراق 90% من نخيله بسبب الحروب الطائشة والإهمال وانخفضت اعدادها الى (6) ملايين نخلة فقط عام 2006 .أليوم …
ونحن لا نملك إحصاءات دقيقة أو صحيحة عن عدد أشجار النخيل ، فان علينا تصديق وزارة الزراعة التي تقول بان المبادرة الزراعية قد أسهمت بزيادة أشجار النخيل الى ( 20 ) مليون نخلة , ولكن هذا الرقم يشمل جميع انواع النخيل من العيط والافحلة ومنتهية العمر الانتاجي والمريضة ومن لا جدوى منها ، كما ان طريقة إعداد بساتين النخيل ما تزال متخلفة بمعنى الكلمة وتعتمد على العامل البشري من صاعود النخل , الذي يتولى خدمة النخلة مستخدما الحبل المصنوع من الليف الذي كان يستخدمه أجداده قبل آلاف السنين ، في الوقت الذي أصبحت فيه بساتين النخيل في الدول المنافسة , تدار بطرق آلية ميكانيكيةً وتستخدم أحدث تقنيات الري والمكافحة والتعقيم وتصل إنتاجية النخلة فيها الى أضعاف إنتاجية النخل العراقي المسكين .
ويصل الإنتاج السنوي من التمور العراقية في المواسم الجيدة الى ( 700 ) ألف طن , وهذا يعني ان الأشجار المثمرة في العراق هي بحدود (14) مليون نخلة , بافتراض ان النخلة العراقية الواحدة تنتج بحدود (50) كغم سنويا , وهو مستوى إنتاجي متدني ولا يكفي لتسديد كلفة العمل البشري لصاعود ألنخلة الواحدة , خاصة من الأنواع العادية من التمور مثل الزهدي والخستاوي والساير ، وإذا أضفنا الأنواع الاخرى من أشجار النخيل وبضمنها الذكور والعيط , فان تقديرات وزارة الزراعة هي تقديرات منطقية وان تحديد عدد أشجار النخيل عند مستوى(20) مليون نخلة هو مستوى واقعي .
اما مصير الإنتاج السنوي من التمور ، فان الاستهلاك المحلي من الأرطاب والتمور وفي مواسمها يكون بحدود (130) الف طن ، اما التمور الخام المصدرة للخارج فهي في أحسن الأحوال لا تتجاوز كميتها (200) الف طن سنويا ، والكميات التي تذهب للأغراض الصناعية المحلية فإنها لا تزيد عن (70) الف طن ، اما الباقي وهو بحدود (300) ألف طن فتتحول الى علف حيواني لا بسبب حاجة الحيوانات لها وإنما لعدم التصرف بها اقتصاديا , وقسم من هذه الكمية تتلف بشكل نهائي وتتحول الى نفايات لأنها تفقد اهميتها الغذائية حتى كعلف حيواني , نظرا لذوبان العصير السكري أو بسبب الحر او الضغط الناتج عن تراكم الخزن غير السليم او من خلال الإصابة بإصابات خطيرة تجعل من استخدام التمور في المواد العلفية مسألة معقدة وذات خطورة على الثروة الحيوانية المحلية .
ويبلغ الإيراد الكلي لهذا المنتج بالأسعار الجارية بحدود (300) مليار دينار عراقي ، ولو افترضنا ان جميع هذا الإيرادات ترجع على الفلاح وحده ووحده فقط ، فإن حصة النخلة الواحدة تكون بحدود (15) ألف دينار بضمنها أجور النقل والتحميل واللقاحات والأسمدة ، وهو مبلغ زهيد وغير كاف ، بينما يصل ايراد النخلة الواحدة في الإمارات العربية مثلا الى اكثر من عشرة أضعاف هذا الرقم ، وكذلك الأمر في السعودية او عمان ، والى اكثر من ذلك في دول المغرب العربي او الاْردن ، والى اكثر من (25) ضعف في كاليفورنيا .
طبعا .. سوف يقوم الفلاح بإهمال النخيل مادامت الإيرادات المتحققة لا تكفي لتغطية المصاريف ، وهذا هو اُسلوب خبيث يستعمله بعض المسؤولين المختصين بتدمير الاقتصاد ومنه قطاع التمور في العراق , وقد نجحوا فيه ايما نجاح فهاهي الملايين من أشجار النخيل التي يتم تركها سنويا من غير رعاية او تلقيح والتي تتحول بمرور الوقت الى خواء ووباء ، وقد يسأل احدا لماذا وصلت أحوال التمور الى هذا الحد ومن هو المسؤول عن التدمير المتعمد او غير المتعمد للثروة الأولى في العراق قبل اكتشاف النفط , وللجواب نقول ان التمور قد عاشت وعانت سوء الادارة والتخطيط منذ عقود حالها حال القطاعات الاخرى في الاقتصاد ولم تجد منقذا لها لحد الآن , وبذلك تحولت التمور من ثروة وطنية يفترض ان نتباهى بها ونستند عليها في توفير الامن الغذائي وتعزيز الدخل القومي الى منتوج ثانوي , يتم الرمي به في المخازن او تبقى عالقة في النخيل من دون جني وكأنها عقوق البشر لنعم الله .
ولكن هل نبقى نتفرج على هذه المهزلة في تبديد الثروات وبلدنا دخل قلب العاصفة في أزماته الاقتصادية بعد انخفاض اسعار النفط ؟ , فلو تمت ادارة هذا القطاع بالشكل المطلوب لتحققت ايرادات سنوية من بيع التمور للخارج لأكثر من ( 2) ملياري دولار سنويا , نقول كلا بل ألف كلا , ولكن هذه الكلمات لا تكفي لوحدها للمعالجة ووقف نزيف الهدر في الثروات , لان المطلوب هو عملا سريعا لإنقاذ ما تبقى من النخيل والعمل على تحويل هذه النعمة بما ينعكس خيرا على العراق والعراقيين , وليس القصد من ذلك ان ندعوا لتشكيل لجنة لدراسة الموضوع ووضع المعالجات , وإنما إتخاذ قرارات سريعة وفاعلة من أعلى السلطات بحماية النخيل وتجريم تجريف بساتينها , وحظر إستيراد التمور وإدخال التمور ضمن مفردات البطاقة التموينية للإستفادة من قيمتها الغذائية وإعادة عادات استهلاكها من جديد , فضلا عن تحميل الجهات المعنية بالتمور مسؤولية إدارة هذا المورد الاقتصادي المهم وتحمل نتائج الهدر , وهي وزارتي الزراعة والتجارة والشركة العراقية لتصنيع وتسويق التمور وكل الاتحادات والجمعيات ذات العلاقة بالموضوع .
الأمر المتبقي في هذا الموضوع , هو تحديد المتهمون الحقيقيون عن سياسات إهدار النخيل والتمور , وللحق نقول إننا جميعا نتشارك في المسؤولية عن هذا العمل الآثم للأسف .. ولكن للمسؤولية درجات ومستويات … وللموضوع بقية فيما بعد .