المحاصصة و”بركات إيران” قتلت مستقبل المواطن العراقي
آخر تحديث:
بغداد/شبكة أخبار العراق- لا تستطيع، في السياسة، كما في الحرب، أن ترى المشهد كاملا. ولكن مؤكدٌ أنك ستعثر على بعض جزيئاته، بما يعينك على تلمس المعالم الماثلة، وتوقّع ما يحتمل أن يحدث. وفي متابعة لما جرى ويجري على خشبة المسرح السياسي العراقي، منذ الانتخابات البرلمانية أخيرا، يمكن رصد جملة متغيراتٍ طفت على السطح، وشكلت جزءا مكملا للمشهد الماثل طوال السنوات العجاف التي أعقبت الغزو الأميركي البلاد. وتجعلنا هذه المتغيرات نميل إلى الإقرار بأن “العملية السياسية” التي هندسها الأميركيون، ووثقها الدستور الهجين الذي وضع مسودته اليهودي الأرثوذكسي نوح فيلدمان باقية وتتمدّد. ويتوافق هذا الانطباع مع ما خرج به أكثر من مراقب للأحداث.
لم يدهشنا أن شخصياتٍ كانت، إلى حد قريب، تتزعّم حملة رفضٍ مطلقٍ للعملية السياسية، وتدين الفاعلين فيها، وتناور من أماكن إقامتها خارج البلاد، مقيمةً مؤتمراتٍ مدفوعة الثمن، وطارحة مشاريع وطنية وهمية سارعت إلى الدخول، على غير استحياء، في العملية السياسية، وشاركت في الانتخابات بحرارة، وساومت على المواقع الوزارية، وغازلت خصومها الذين كانت تقذفهم بشتى التهم، وفي حسابها أن من لا يُدرك كله جديرٌ به أن لا يُترك أقله، والحصول على بعض الغنيمة أفضل من الانتظار، خصوصا أن الأعمار قصار مهما طالت.
لم يدهشنا السلوك الانتهازي لقوى محسوبةٍ على اليسار، وإن بدت مفردة “اليسار” منتهية الصلاحية في عصرنا، وسعيها المحموم إلى الانضواء في تحالفاتٍ مع قوى طائفية، وقبولها بما هو مقسومٌ لها حتى ولو بتذييلها ووضعها في آخر السلم، وعدم استشارتها في قضايا مهمة، ورضوخها لتوجيهاتٍ تصل إليها عبر “تويتر” من قياداتٍ دينيةٍ، يفترض أنها أبعد ما تكون عنها بالفكر وبالممارسة.
لم يدهشنا أيضا نجاح لعبة “البوابة الإلكترونية” التي ابتدعها رئيس الوزراء الجديد، عادل عبد المهدي، في تجييش كثير من عناصر التكنوقراط والمثقفين، وإدخالهم في العملية السياسية عبر هذه البوابة. وقد وصلت طلبات التقديم لمواقع وزارية إلى عدد لم يكن متوقعا. وبين من تقدم عديدون ممن كانوا رافضين العملية السياسية. وفي آخر المطاف، أغلق عبد المهدي بوابته وانصرف، لكنه لم ينس أن يعد بعضهم بجوائز ترضية ثمنا لدخولهم في اللعبة!
ليس مستغربا حصول ضجّة في أوساط المثقفين، إثر ترشيح وزيرٍ لحقيبة الثقافة لا يمتلك المؤهلات والخبرة الكافية” يمتلك المؤهلات والخبرة الكافية، وليس له أدنى علاقةٍ بالوسط الثقافي. وليس مستغربا اندفاع منظمات محسوبةٍ على المثقفين إلى إصدار بيانات استنكار، والتهديد بمقاطعة المؤسسات الثقافية الرسمية، وهو أمر محمودٌ لو جرى في سياق رفض “العملية السياسية” الماثلة، والمطالبة بعملية سياسية وطنية عابرة للمحاصصة الطائفية، والدعوة إلى إرساء سياساتٍ ثقافيةٍ تعبر عن موقع العراق ودوره التاريخي ومساهماته في حضارات العالم، وتعكس هويته العربية التي أوشكت أن تقضي عليها سياسات التعصب الطائفي والعرقي، وتتصدّى للمشكلات الماثلة في القطاعات المعنية بالعلم والفنون والمعرفة. وقد أذهلنا تداعي مثقفين معارضين إلى ترشيح أنفسهم عبر صفحات أصدقائهم المثبتة على منصّات التواصل، وقد كانوا يصدّعون رؤوسنا ليل نهار بشعارات التغيير، وبشتم “العملية السياسية” ومريديها. ونحسب أنه لو قدّر للواحد منهم أن يصير وزيرا فعلا، فسوف لن تكون الثقافة في بلادنا “أبدع” مما كانت، هذا ما يخمنه العرّافون العارفون بدقائق الأمور.
وأيضا مرة أخرى، لم نفاجأ بأن الوزراء الأربعة عشر الذين وصفهم عبد المهدي بأنهم تكنوقراط أو مستقلون ليسوا كذلك، إنما هم محسوبون على الكتل الحاكمة، ولم تخرج تشكيلتهم عن حسابات المحاصصة التي شرعنها الحاكم الأميركي الأسبق للعراق، بول بريمر.
وأخيرا، لن يصدّق أحد منا بعد اليوم أكذوبة نهاية المحاصصة الطائفية، وكل ما يحيط بنا ينبئنا بأن العملية السياسية باقية وتتمدّد، وأن لا مجال لعملية سياسية وطنية بديلة، لأن عمليةً كهذه لا تتحقّق إلا بمعجزة، وإلى أن تحدث تلك المعجزة سيواصل بعض “الوطنيين” لهاثهم وراء بقايا الغنيمة، بعد أن طووا ملفات برامجهم، وقدّموا أوراق اعتمادهم إلى طهران التي منحتهم بركتها. كما وسيظل بعض ورثة النظام السابق أكثر مما يجب، معلقين آمالهم على واشنطن، كي تزيح إيران عن طريقهم، وتشرع لهم الأبواب للعودة إلى السلطة، بعدما كانت أزاحتهم في ساعة جنونٍ. ولكن لا وقت لدى سيد البيت الأبيض للشفقة، أو العطف على ضحاياه. أما المواطن العراقي البسيط فوحده سيظل يكابد هموم العيش ومنغّصات الحياة في انتظار “المهدي” الذي يجيء ولا يجيء.