عام 1959 كتب خمسة قضاة عراقيين قانون الأحوال المدنية حمل رقم 188. يعد ذلك القانون من أكثر القوانين اعتدالا في المساواة بين الرجل والمرأة ومراعاة حقوقهما الاجتماعية في الزواج والطلاق والإرث والإنفاق وسواها من المسائل التي تحتاج إلى أن تستند إلى أحكام صريحة لا لبس فيها.
منذ سنوات تحاول الأحزاب الطائفية الحاكمة في العراق إحلال قانون جديد محل ذلك القانون بحجة التقيد بأحكام مذهبية، هي في حقيقتها تنطوي على استلاب لحقوق المرأة واسترخاصها إلى درجة اعتبارها سلعة يمكن التخلص منها من غير إلزام الرجل بدفع النفقة إضافة إلى حرمانها من حضانة أطفالها. الأدهى من ذلك أن القانون البديل يجيز تزويج البنات في سن التاسعة. وإذا ما كان دعاة التغيير قد أطلقوا على محاولتهم تسمية “القانون الجعفري” فإن التسمية التي تليق به هي “قانون زواج القاصرات”.
كُتب قانون 188 بأيدي قضاة متمرسين يشهد التاريخ القضائي في العراق لهم بالكفاءة والعدل والخبرة أما المتحمسون لتعديله (إلغائه) فإن جميعهم لم يدرسوا القانون إضافة إلى أن من حصل منهم على شهادة جامعية فإن شهادته صادرة من إحدى الجامعات اللبنانية التي ارتبطت بفضيحة التزوير المعروفة. أي أن تلك الشهادة مزورة. وهم ممَن سعوا في أوقات سابقة إلى أن يقر مجلس النواب صلاحية الشهادات المزورة التي يحملونها.
غير مرة سعى نواب الأحزاب الدينية إلى تمرير القانون الذي لا أعرف لماذا تم ربطه بالمذهب الجعفري “الشيعي”. هل لأن مرجع النجف الأعلى علي السيستاني أجاز زواج القاصرات في إحدى فتاواه الموثقة؟ لم يكن الكثير من الشيعة يعرفون ذلك إلى أن تم فضحه بعد إصرار النواب على تمرير القانون أخيرا بعد أن فشلوا في المرات السابقة بسبب الموقف المناهض له الذي عبرت عنه مختلف فئات المجتمع العراقي.
ما يدعو إلى السخرية والاستهجان في الوقت نفسه أن نواب الشعب يحاولون أن يفرضوا عليه قانونا يرفضه. السخرية تتسع حين يضع رجال دين أنفسهم في موضع رجال القانون لتحل الفتوى الدينية محل الأحكام الشرعية التي استند إليها واضعو القانون الأساس. كان الإسلام دائما في الدستور العراقي هو مصدر التشريع الأول. أما اليوم فأشك أنه كذلك. فالمذاهب صارت هي المرجع، بل إن رجال الدين ومنهم السيستاني نفسه قد صادروا المذاهب لحساب آرائهم الشخصية وهي ما تُسمى بالفتاوى.
إنها حفلة طائفية أخرى في سلسلة الحفلات التي صار العراق يشهدها منذ 2003 وهو عام الاحتلال الأميركي. هي حفلة يتم من خلالها اختراق حقوق الإنسان وحقوق الطفل. ولكن سحق المرأة هو الهدف الأساس. وهو ما يدفعني إلى التشديد على ضرورة أن تكون هناك حماية دولية للمجتمع العراقي الذي يُخطط له أن ينزلق إلى هاوية بدائية غير مسبوقة. إذ أنني لا أتوقع أن البدائيين كانوا يغتصبون أطفالهم. ما يحدث في العراق هو إساءة إلى الإنسانية ومن خلالها إلى الشرائع السماوية.
صحيح أن معظم العراقيين يعيشون في حالة اقتصادية رثة بالرغم من ثراء بلادهم بسبب الفساد المستشري بين مفاصل الدولة التي تديرها الأحزاب التي ينادي ممثلوها في مجلس النواب بالقانون الجعفري، لكنْ أن يصل ذلك الفساد إلى درجة انتهاك براءة الأطفال ورمي المرأة في سلة المهملات فذلك أكبر من طاقة البشرية على التحمل في القرن الحادي والعشرين. يردد دعاة القانون الجديد سؤالا “هل قانونكم أفضل من القرآن؟” وهم يدعون أن قانون الأحوال المدنية قد وضعه الشيوعيون. والشيوعيون يجلسون معهم تحت قبة البرلمان بعد أن ورطوا أنفسهم في المشاركة بالعملية السياسية التي هي عنوان النظام السياسي.
الطفولة في العراق في خطر. وهو ما يلزم المنظمات الدولية بواجبها من أجل حمايتها. أما المرأة العراقية فإن أكثر من عشرين سنة من القمع وتضييق سبل العيش أخضعاها نسبيا لمقاييس صنعت صورتها التي تلغي عقودا من التحرر، كانت فيها المرأة رائدة ومساهمة في صنع إرادة المجتمع. لقد تقدمت طبقة الزينبيات لتحل محل المرأة العاملة والمزارعة والطبيبة والمهندسة والمفكرة وصانعة المستقبل.
ينسف المتخلفون من أبناء الشوارع، العاطلون عن الخيال ممَن تتلمذوا في سراديب الأحزاب الطائفية ومعسكرات الحرس الثوري الإيراني، تاريخا عظيما كانت فيه المرأة رائدة بناء وداعية حرية. ينتصرون على المرأة العراقية بقوة السلطة والمال والسلاح وهو ما يعني أنهم يحفرون قبورهم. فالمرأة هي سر الحياة.