المسؤولية الجنائية للرؤساء والقادة المدنيين بقلم جميل عودة

المسؤولية الجنائية للرؤساء والقادة المدنيين   بقلم جميل عودة
آخر تحديث:

  

جميل عودة 

 من أهم الالتزامات القانونية التي تنشأ عن انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي الالتزام بكفالة مساءلة مرتكبي تلك الانتهاكات. ففي المبادئ الأساسية التوجيهية بشأن الحق في الانتصاف والجبر لضحايا الانتهاكات الجسمية للقانون الدولي لحقوق الإنسان والانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني الدولي، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن الالتزام باحترام وضمان احترام وإعمال القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي يشمل واجب (التحقيق في الانتهاكات بفعالية وسرعة ودقة ونزاهة، وأن تتخذ إجراءات عند الاقتضاء وفقا للقانون المحلي والدولي ضد مرتكبي الانتهاكات المزعومين (الفقرة 3/ب). وبينما يستلزم تطبيق المبدأ العام المتعلق بفرض المسؤولية الجنائية الفردية عن انتهاكات القانون الإنساني الدولي مشاركة مباشرة، يعترف القانون الجنائي الدولي بأهمية الزعماء والقادة في كفالة عدم ارتكاب الأفراد العاملين تحت إمرتهم لأي سلوك جنائي تترتب عليه انتهاكات جسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان أو القانون الإنساني الدولي. لذلك، يتحمل الرؤساء والقادة المدنيون المسؤولية الجنائية عن الجرائم التي يرتكبها أتباعهم، سواء أمروا بارتكاب تلك الجرائم، أو لم يأمروا بها. فبحسب علامة القانون الدولي ” أوبنهيم لوترباخت” أن الدولة ومن يعملون بإسمها يتحملون المسؤولية الجنائية عن انتهاكات قواعد القانون الدولي، والتي بالنظر إلى جسامتها وقسوتها واحتقارها للحياة الإنسانية تضعها في قائمة الأفعال الإجرامية كما هي مفهومة في قوانين الدول المتحضرة. وفى قضية معسكر “سليبيتشى” وجدت غرفة المحاكمة بمحكمة يوغسلافيا أن ” مبدأ مسؤولية الرؤساء لا يشمل فقط القادة العسكريين، ولكن أيضاً المدنيين الذين يشغلون مناصب رئاسية ذات طبيعة واقعية أو ذات طبيعة قانونية. فطبقا للمادة (25) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يكون الرئيس أو القائد الذي أصدر أمرا لارتكاب عمل غير قانوني مجرما طبقا لقانون المحكمة، وهو مسؤول عن تلك الأفعال كما لو كان قد أرتكبها هو بنفسه. كما أن الإغراء أو الحث على ارتكاب الجريمة أو تقديم العون أو التحريض أو المساعدة بأي شكل لغرض تيسير ارتكاب الجريمة أو غير ذلك من أشكال المساهمة الجنائية التي فصلتها المادة (25) من قانون المحكمة. وبناء عليه، يكون القائد أو الرئيس مسؤولاً مسؤولية جنائية فردية (مباشرة) عن تلك الجريمة، وليس مجرد شريك على النحو المطبق بمعظم القوانين الوطنية. ليس هذا وحسب، بل يكون القادة والرؤساء مسؤولين عن تلك الجرائم التي ارتكبها أتباعهم حتى إذا لم يأمروا صراحة أو يصدروا تعليمات بارتكاب تلك الجرائم. ويطلق على هذا النوع من المسؤولية ” المسؤولية المفترضة للقادة والرؤساء ” فإذا ارتكب المرؤوس أو التابع وقائع فردية بدون علم القائد أو الرئيس فأن الرئيس لا يكون مسؤولا إلا عن تقديم مرتكب الجريمة إلى السلطات المختصة للتحقيق معه ومحاكمته. أما إذا تم ارتكاب الأفعال الإجرامية من المرؤوسين أو التابعين وفقا لنمط سلوك يقوم على التعددية والتكرار وعلى نطاق واسع فيمكن أن تنعقد مسؤولية الرئيس عن تلك الجرائم ولا يستطيع أن يدفع بعدم علمه بتلك الجرائم. فعلى سبيل المثال، عند محاكمة الرئيس الصربي السابق ” سلوبودان ميلوسفتش ” قضت المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة بأنه يكفي لإثبات مسؤوليته أن يتم إثبات انه ” كانت له سيطرة فعلية على أجهزة الدولة وعلى المساهمين في المشروع الإجرامي المشترك الذي ارتكبت من خلاله الجرائم، فضلا عن علمه بارتكابها” هذا وقد ورد في قضاء المحاكم الجنائية الدولية” انه ليس من اللازم أن يعلم رئيس الدولة بتفصيلات ما سوف يرتكب من جرائم، وإنما يكفي أن يتوافر لديه العلم بطبيعة تلك الجرائم وبقبوله وقوعها. وفى حكم صدر حديثا من المحكمة الجنائية الدولية، أسس قضاتها المسؤولية الجنائية عن الجرائم ضد الإنسانية قبل أحد رجال السلطة المدنيين باعتباره فاعلا أصليا للجريمة، على سند من اقترافه الأفعال الآتية (إنه أشرف على وسائل تنفيذ الخطة الإجرامية الموضوعة. إنه ساهم في حشد جموع المهاجمين على المجني عليهم. إنه أدار مصادر التمويل اللازمة لتنفيذ هذه الخطة الإجرامية). والسؤال المطروح هنا هو هل يمكن أن يحاسب الزعماء والرؤساء عن الجرائم التي اقترفوها أو عن الجرائم التي اقترفها غيرهم بتوجه أو إسناد منهم في أي وقت أو مكان كان؟ إذا كانت انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي تشكل جرائم دولية، تتحمل الدول مجموعة من الالتزامات والمسؤوليات القانونية التي تنشا من القانون الجنائي الدولي. ويقع على عاتق الدول واجب التحقيق في الانتهاكات وواجب التحقيق فيها وواجب محاكمة الأشخاص الذين يزعم أنهم ارتكبوا هذه الانتهاكات وفقا للقانون في حال توفر أدلة كافة ضدهم. واستبعاد إمكانية العفو عن مرتكبي بعض الانتهاكات وإتاحة إمكانية الانتصاف والجبر للضحايا وأسرهم. ولكن المتتبع لموضوع مساءلة الرؤساء والقادة المدنيين يجد أن هناك العديد من المشاكل والمعوقات حالت وتحول بشكل مستمر من مساءلة من يعتقد أنهم ارتكبوا أو أمروا بارتكاب جرائم ضد الإنسانية ومنها: 

 الأولى: إن الوقائع التاريخية لمحاسبة الزعماء والرؤساء تؤكد أن إثارة مسؤولية القادة أو الزعماء لا يمكن أن تتحقق عموما إلا من خلال الدول المنتصرة التي تلاحق مرتكبي الجرائم وتوجه التهم اللازمة إليهم، فليس لضحايا العدوان أن يباشروا هذه الملاحقة بصورة مؤثرة. ومن السوابق التاريخية في هذا الخصوص ما سعت إلى تحقيقه الدول المنتصرة على نابليون في مؤتمر فينا عام 1815 حيث أصدر الحلفاء تصريحا بتاريخ 13 آذار/مارس 1815 اعتبر فيه نابليون شخصاً محروماً من حماية القانون لأنه رفض العيش في سلام وطمأنينة ولما تسبب به من دمار وخراب وحروب أشعلها خلال أربعة عشر سنة، ومن ثم أصبح خارج العلاقات المدنية والاجتماعية وعدواً للعالم يجب القصاص منه. غير أن بعد هزيمة نابليون الأخيرة لم تلجأ الدول المنتصرة إلى محاكمته وإنما اكتفت بتكليف إنكلترا بسجنه في جزيرة سانت هيلانه.

 

 والثانية: فمع أنه لا توجد اتفاقية دولية تنظم مسألة حصانة الرؤساء والحكام من المسؤولية، غير أن ثمة عرف دولي يمنح الرؤساء أثناء قيامهم بوظائفهم حصانه من المسؤولية وتوسع الأمر ليشمل مسؤولين آخرين يمثلون الدولة التي يتبعونها احتراماً لسيادتها. فعلى سبيل المثال رفضت فرنسا وبلجيكا الطلبات التي تقدمت بها المنظمات الحقوقية عام 1998 لمحاكمة لوران كابلا رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية أثناء زيارته لتلك الدولتين. والحقيقية أن ممارسات الدول تختلف في هذا الموضوع، فالاعتبار الحقيقي في تمتع الرؤساء السابقين بالحصانة من عدمه إنما يقوم على مصالح الدول وعلاقاتها السياسية، فإذا وجدت إن إعمال حصانة رئيس الدولة السابق قد يضر بمصالحها مع بلاده أو الدول التي تطلب تسليمه لمحاكمته، فإنها تعمد إلى تسليمه غالباً. أما إذا وجدت أن منحه الحصانة يتفق مع مصالحها ولا يضر بها نجدها لا تتردد في منح هذه الحصانة؛ خاصة وانه ليس في القانون الدولي ما يمنع من تقرير بعض الحصانات والامتيازات للرؤساء الدول السابقين، كما انه ليس في قواعد القانون الدولي ما يلزم الدول على تقرير مثل هذه الامتيازات. إلا أن قواعد القانون الدولي تسير باتجاه مبدأ عدم الاعتداء بالحصانة كسبب للإفلات من المسائلة عن الجرائم الدولية في مختلف المواثيق الدولية. فقد ذهب (مجمع القانون الدولي) في قراره الصادر في باريس عام 2001 إلى أن رئيس الدولة الذي لم يعد في مهامه الرسمية لا يتمتع بأي نوع من أنواع الحصانات الرئاسية في أي دولة من الدول الأجنبية، واستثناء على ذلك يتمتع الرئيس السابق بحصانات رئيس الدولة إذا تعلقت الدعوى المرفوعة ضده بعمل من الأعمال الرسمية التي قام بها أثناء ممارسة مهامه الوظيفية، كما نصَّ القرار على أن الرئيس السابق لا يستفيد بأي نوع من أنواع حصانات رئيس الدولة ضد التنفيذ. وعلاوة على ذلك، أكدت على الدوام كل من قرارات الجمعية العامة ولجنة حقوق الإنسان، وتقارير الإجراءات الخاصة للأمم المتحدة والسوابق القضائية للهيئات المنشأة بمعاهدات حقوق الإنسان أن من واجب الدول التحقيق في انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي ومقاضاة مرتكبيها. وقال الأمين العام في تقرير عن إنشاء محكمة خاصة “لسيراليون” إنه في حين أن الأمم المتحدة تعترف بان العفو هو مفهوم قانوني مقبول وبادرة للسلام والمصالحة في نهاية الحرب الأهلية أو النزاع المسلح الداخل فإنها اتخذت دائما موقفا مؤداه أنه لا يمكن منح العفو على مرتكبي الجرائم الدولية. مثل الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية أو غير ذلك من المخالفات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي.

 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *