في استذكار جبرا إبراهيم جبرا: محمد خضير كنت لا أملك من هذه المقالة غير سطرين، عندما رن هاتفي النقال بنغمة «وليم تل» في هزيع الليل وباغتني صوت متقطع بعيد قادم من وراء الستر، يشكو عجزه وغربته: «شخنا يا محمد.. ويلنا صرنا عجائز». لم أتثبت من جنس المتصل، ذكرا كان أم أنثى، فقد أخنى الدهر على صوته حتى دثره. تركت السطرين المكتوبين ينضحان عرقا بانتظار عودتي إليهما وإشباعهما سردا مقاليا، غير أنهما ظلا على حالهما حولا كاملا، حتى جاء آب هذا العام فتذكرت مثواهما وبحثت عن طويتهما بين هوامشي المسجلة على الطبعة الأولى من مجموعة قصص جبرا إبراهيم جبرا «عرق». لم يتزحزح سطر غائر عن مكانه في الورق الصحفي القديم، لكني وجدت السطرين اللذين حشرتهما بين الصفحتين الأخيرتين الخاليتين من الكتابة، قد سالا وسرحا كقطرة عرق، ثم جفا وتبقعا كغرة على جبين جبرا العريض. أما السطران النائمان اللذان سعيت لإيقاظهما فكانا: «كتب جبرا إبراهيم جبرا رواية ومجموعة قصص بينما كان يتهيأ للانتقال من موقع النكبة الفلسطينية والاستقرار في بغداد الناهضة من رماد الحرب». وبالطبع، فقد أضمر السطران إشارة إلى رواية «صراخ في ليل طويل» التي أنهى جبرا كتابتها في القدس العام 1946 ونشرتها مطبعة العاني ببغداد العام 1955، وإلى قصص «عرق» الصادرة عن المؤسسة الأهلية ببيروت العام 1956. وكان العملان محمولين في حقيبة جبرا حين وفد إلى العراق في أيلول 1948 منتدبا للتدريس في معاهده الجامعية؛ فجاء نشرهما مأمولا مع ما كانت بغداد تنتظره من موجات التحديث الغربية في الأدب والفنون بعد الحرب العالمية الثانية. وكان السطران يتطلعان إلى إيقاظ ما سكت عنه التاريخ الأدبي من استعذاب مشوب بالخشية والحذر عند استقباله عملي جبرا الأولين. حملت رواية جبرا سأمه من ركود المجتمع الشرقي «المقدسي»، وجرأة مثقفيه على تمثيل انحلال الأسر المدنية الكبيرة بعد النكبة والحرب في خطاب مرمز بالأساطير الغربية. وبينما تناصت رؤيا «صراخ في ليل طويل» مع «صورة الفنان في شبابه» لجويس، إلا أن انصبابها في صيف بغداد اللاهب تناضح والرغبة المتقدة لدى قصاصين عراقيين صمموا على انتهاك الأعراف والتقاليد الاجتماعية والتجرؤ على تمزيق الستار المخملي للأسر البغدادية البرجوازية وفضح انحلالها الأخلاقي. وبذلك التقت الرؤية «المتغربة» الوافدة في طوايا رواية جبرا، مع تصميم فؤاد التكرلي في «بصقة في وجه الحياة» وعبد الملك نوري في «جيف معطرة» ومهدي عيسى الصقر في «عواء الكلاب» بتأثير من النزعة الوجودية الانتقادية والعزلة الاجتماعية لمثقف المدن الاستعمارية بعد الحرب. ما تبقى من مسكوت دفنه الهاتف النقال في صمت الليل، سنواصله مع قصص جبرا ذات الأصل البغدادي، وعددها قليل بين القصص ذات المرجعية الفلسطينية، في مجموعته الوحيدة «عرق». وسنخصص مقالتنا للقصة الأولى في المجموعة «عرق» التي باشر جبرا فيها تمثيل سلطته التحليلية على نوازع شخصيات عراقية مثقفة. ولعلنا نستدل من هذا الخطاب السردي المبكر على بوادر تغلغل الوعي «الاستغرابي» الذي حاول جبرا نقله من تجربة فوكنر في «الصخب والعنف» إلى قصصه. يتصاعد الوعي الحسي من بواطن شخصيات المجموعة كلها، لكنه يرشح في قصة «عرق» بمسيل لا شعوري عكر تخوض فيه أربع شخصيات مثقفة تتجاذبها مشاعر الحب والبغض، والشك والشهوة، ويتنقل بها الضجر والضياع بين زوايا المدينة المظلمة.تعقد القصة حديثا مركزيا بين شخصيتين حاضرتين «عباس» و»مصطفى» موجها للمساس بشخصيتين غائبتين «خليل» و»أميمة». ينم «عباس» على «خليل» عند «مصطفى» ويوغر صدره عليه بعد أن أفلح في انتزاع «أميمة» التي يحبها منه ويتزوجها. لكن حديث النميمة بين الصديقين الحاضرين ينحرف عن مساره الظاهري ليغور كنهر من «الانثيالات» المثقفة وغير المثقفة تحت سطح السرد، محملا بنفايات الليل التي تعترض مسيرهما من مكان إلى مكان في ليل بغداد البهيم. قد نعثر في خطاب جبرا الذي افتتح به دخول المدينة الاستعمارية بغداد، على سر شيوع الخطاب الذاتي الحواري المزدوج في وعي شخصية مثقفة خبرت الجنس في مدن الاغتراب الرأسمالية، ثم عادت منها لتنشره برؤيا انعكاسية انتقادية في نصوص مجتمع شرقي راكد. ثم قد نتساءل عن استخدام الاسم «مصطفى» في نصوص جبران الروحية على نحو حسي مختلف في نصوص الطيب صالح وجبرا إبراهيم جبرا الشهوية. ثم قد يستهوينا تتبع الأثر المونولوجي في نصوصهما وسريانه السريع في قصص عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي ونزار عباس وآخرين من الحقبة الستينية التالية. ما الذي أحدثه ذلك الارتجاج الدماغي في سرديات العراقيين؟ بالطبع كان تأثيره صاعقا، وتجريبه مدمرا لخطاب الواقعية الموروث من فترات المثاقفة الاستعمارية. فقد كان شيوع الخطاب المونولوجي (كما ظهر في نصوص جبرا الأولى) أكثر من تجريب شكلي بحت، بل كان أكثر من نضح رمزي بسيط. قد يفيدنا العثور على هذا السر السردي في تنشيف عرق السنين الحارة عن جبين نصوص مدن الاستعمار، وتخفيف صدمة «الاستغراب» وهزاتها الارتجاجية على وعيها. وقد تكون هذه غايتنا التي توخيناها من تحريك السطرين الواقفين. فما كان قطرات صغيرة ساحت بمرور الحقب قد استحال قبضات صاحية رفعت سقف هذه المقالة. وما بدا مجرى ضيقا من الصراخ والعرق اتسع بحرا سرديا في روايات جبرا التالية (السفينة، والبحث عن وليد مسعود، والغرف الأخرى، ويوميات سراب عثمان).