يقال أن الكلام صفة المتكلم، وقد صدق القائل، إذ يأخذ الكلام والتمنطق به أحيانا شكلا جميلا من أصناف الفنون، فيتعدى إذاك كونه وسيلة تعبير او مخاطبة، فيتحكم حينها المتكلم بما يمتلكه من أفانين وملَكة في صياغة كلامه، فيظهره بأبهى حلة، وأنقى صورة، تسر الناظرين فضلا عن السامعين، الأمر الذي يمكّنه من إدارة دفه الحديث وإن تعددت أطرافه وجوانبه على أتم وجه.
اليوم في عراقنا الجديد، صار الكلام في أروقة ساسته ودهاليز مسؤوليه ومعتلي المناصب الرفيعة سلعة، او فلنقل أداة يُسخَّر بها موزون الكلام وشفيفه، ورصين اللفظ ومسبوك المعاني، تؤطر جميعها ببهرج العبارات الرنانة، وتحاط بهالة من الجمل الطنانة، لغاية غير نزيهة، أضحت ديدن القائل والمتقول في كل محفل ومقام، تلك الغاية هي قلب الحقائق وتشويه الصور، او تزويقها وتجميلها أحيانا. كذلك تطلق البيانات والخطابات على بساط يركب ريح المكر والخديعة، للوصول الى غايات هي الأخرى لاتخدم غير الباطل، فتلبسه لبوس الحق، وتسبغ عليه قناعا من المصداقية الزائفة. وإنه لمن المؤلم حقا أن هناك مستمعين كثر، يصغون الى لغو الكلام وباطله، فيأخذ فيهم مأخذ التصديق والاعتقاد، نائين كل النأي عن “الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه”.
ولايخفى على الجميع أن صياغة الخبر والبيان والتصريح في مؤسسات الدولة، يمر بسلسلة من التنقيحات والتمحيصات والتعديلات، سواء أمقروءًا كان أم مرئيا أم مسموعا! ليصب بصياغته الأخيرة فيما ترنو اليه الجهة المصدرة له، لاسيما إذا كان كلاما في قضية حساسة، يُستشف منها موقف الجهة ووجهة نظرها فيه. ولما كانت مؤسستا البلاد التشريعية والتنفيذية من أقرب المؤسسات تماسا مع المواطن في حيثيات حياته، فإن للكلمة والجملة والعبارة تأثيرا وأثرا بليغا في تفاصيل يومياته، مايلزم الناطقين بها أن يولوها أشد اهتماماتهم، ذاك أنهم مسؤولون عما ينطقون، علاوة عما يفعلون. والمسؤولية هنا تتضاعف أضعافا كثيرة، إذ المتراكم من المشاكل كبير، والتداعيات التي تناسلت عنها أكبر، والوقت الضائع الذي يمر به البلد لايسمح بالتباطؤ والتماهل، بل هو يدعو الى الجري بأوسع الخطوات، فالآن والأوان اليوم كما قال عنه الشاعر علي الجارم:
يا أمة العرب اركضي
ملء العنان ولاتهيدي
هذا أوان العدو لا
الابطاء والمشي الوئيد
فهل حث الخطى سياسي من الذين توكل اليه مهمة من المهام، سواء أكان عضوا في مجلس النواب، أم وزيرا أم مديرا في المجلس التنفيذي، لإنجاز ما منوط به من واجبات تجاه بلده وأبناء بلده؟! لا أظن الإجابة مفرحة لأي عراقي نزيه، فالمجلس التشريعي لايبرح أعضاؤه -ورئيسه طبعا- المماطلة والتسويف بمراحل سن القوانين وتشريعها، بدءًا من القراءة الأولى، مرورا بالقراءة الثانية، وصولا الى القراءة العاشرة، وكما يقول مثلنا: (يريدوها زغيرة زغيرة.. يريدوها چبيرة چبيرة) إذ يأخذ مشروع القانون في أحضانهم من الوقت، مايكفي لسن دستور بلد بأكمله، وطبعا هذا العرف لاينطبق على مشاريع القوانين جميعها، بل هو انتقائي كيفي مزاجي هوائي، فما يمس حاجة المواطن يدرج عادة في نهاية جدول أعمال المجلس، أما مشاريع القوانين التي لها مصلحة لواحد أو أكثر ممن يقبعون تحت قبة البرلمان، فلها الأولوية والأسبقية والعليّة على باقي مشاريع القوانين، تحت شعار: (كلمن يحود النار لگرصته).
أما المجلس التنفيذي، فطامته لاتقل عن طامة التشريعي حجما وضررا، بل هي أشد وطأة على المواطن، وأضل سبيلا، ذلك أن حاضره ومستقبله مربوط على التوالي والتوازي، بما تنتجه مؤسسات المجلس التنفيذي، بدءًا من طعامه الى كسائه الى مسكنه الى مصدر رزقه الى مفردات يومه كافة، فجميعها مرهونة بأداء المؤسسات التنفيذية، والأخيرة هذه في شغل شاغل عن مصلحة المواطن، أسوة بالمؤسسة التشريعية، حيث وضع المجلسان المواطن في المرتبة المئة من اهتماماتهما، ولا يفوتهما طبعا الارتكاز على التصريحات المنمقة، والاتكاء على الوعود المعسولة، وإطلاق الكلام المنعم والمفردات الساحرة على مسمع المواطن. وبين هذا المجلس وذاك، حار المواطن أنّى يولي وجهه، قبل المشرق أم قبل المغرب!.