النقدُ الأدبيُّ بين الوظيفة والخضوع

النقدُ الأدبيُّ بين الوظيفة والخضوع
آخر تحديث:

د. فارس عزيز المدرس

 غالباً ما يحدث رواجُ الأفكار والتصورات المنحطّة؛ بفعل التكرار والتلقين، وهذا الرواج تحصيلُ حاصل، في حين يتمثّل السببُ الحقيقي بعُقدٍ معنويَّة تمرّ بها المجتمعات؛ فتنسحبُ آثارُها لتجرفَ في طريقها الكثيرَ مِن القيم والمبادئ. وهذا الحالُ عصفَ بالموقفِ الأدبي إلى حدِّ الخلخلة والضياع. ولم يحترقْ في أتونه الأدباءُ وحدهم والقرّاء؛ بل طال النقادَ أيضاً؛ إذ منهم مَن أخذ يدافع عن مَساربِ الانحطاط القيْمي للأدب؛ وكأنه ينافِح عن مقدساتٍ لا يأتيها الباطلُ مِن خلفِها ولا مِن بين أيديها.يقول ريتشاردز مُبيناً الخطأ الفادحَ في الفصل بين النقد الأدبي والقيْمة: (مما يدعو إلى الأسف  أنّ يتجنّبَ ذوو الحُكم السديد والتفكير الرزين الكلامَ في النواحي الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة للفنون؛ إذ إنّهم بتجنّبهم هذا يفسحون الطريقَ للطيش ويضيّقون مِن دون مبرّر مجالَ النقاد الأكفاء).

 في معنى المنفعة

لا أبغي هنا نفيَ المنفعة، بوصفها حقّاً للمنتفِع؛ لكنها حين تتحوّل إلى مِعيارٍ وعلى حساب قيمٍ أخرى فأمرٌ خطير. وما نراه نافعاً في ظروف معيّنة ليس معناه أنه نافعٌ بإطلاق، وما نراه نافعاً قد ينطوي لاحقاً على ضررٍ كبير لصاحبه أو لآخرين. هذا فضلاً عن عُسْر تعريف النافع؛ من وجهة نظر أحياديَّة. وسريان رأيٍ ما ليس بالضرورة أن يكون صواباً؛ حتى؛ وإنْ صدر عن رأي الأغلبيَّة؛ فالأغلبيَّة قد تقع فريسةَ التشويش والتضليل أو اليأس. الاتجاهُ النقدي الذي يسعى إلى تفريغِ الأدب مِن وظيفته ينطلق مِن سوءِ فهم (البرغماتيَّة)، ولا يقف عند حدودِ جعْل النفعي يطغى على ما هو موضوعي فحسب؛ بل وصل إلى حالٍ أكثر خطورة؛ ألا وهو العبثُ بطبيعةِ المعرفة والفنّ عموماً. 

أجزم آسفاً بأنَّ مِن النقاد مَن لا يفهمون مِن البراغماتيَّة إلا جانبها الذاتي؛ دون الالتفاتِ إلى علاقة النفعي بالمجموع، مِن حيث كونها فلسفة تتعلّق بمفهوم المصلحة ومدياتها. فلنفحصْ أولاً علاقةَ النظريَّة البراغماتيَّة بالقيمة؛ مِن دون الخوض في تفاصيلها؛ خارج نطاق الوعي الأدبي. في مقاله (هل للوعي وجود) أنكر وليم جيمس الوعي بوصفه كياناً مادياً، وتخلّى عن النظرةِ الجوهريَّة له، فـلم يعُد الوعيُ كياناً مستقلاً يكتشف القيمَ الحقيقيَّة للواقع… وهذا يُفضي إلى أنَّ الوعي غيرُ قادرٍ على تشكيل العالم الخارجي، وإنما يعطي إمكانيَّة وصفه فحسب. ومقولة وليم جيمس: إنَّ “معرفتنا تخلق قيمةَ الواقع” ستجرّنا إلى أنه ليس هناك حقيقة ثابتة؛ والقيمة ستتغير طِبقاً لتغير المعرفة والوعي!، وهذا مُحال؛ فالذي يتغيّر هو التصوراتُ والأفكارُ؛ لا الحقائق، وما أعنيه بالحقائق هنا المسلَّمات التي تبقى مسلماتٍ؛ ما لم يقم دليلٌ على بطلانها.ما لم يُفصح عنه وليم جميس أنَّ المعرفةَ يجري تصنيعها سلفاً لتطرحَ خطاباً فيلولوجيا (لغوياً) سرعان ما يدّعي أنه الواقع الحقيقي. وهذا ليس بصحيح؛ إلا في حال إيقاف البرغماتيَّة تأثيرها في الأذهان؛ قبل إنتاجها للواقع. أمّا  أن يجريَ طرحُ الأفكار قسراً؛ ثم الادعاء بأنَّها هي الواقع فهذا قفزٌ على الحقيقة. ومِن هنا يتّضح  أنَّ الوعيَ البرغماتي لا يعيرُ كبيرَ أهميَّة للقيمة؛ إلا بحدود ما تشكّل مصلحةً لمَن يتبنّاها.

 المأزق

إنَّ معايير البرغماتيَّة بالأساس ماديَّة فردانيَّة؛ حتى وهي تدّعي العموميَّة، وهي ترتبك حين تتعرّض للقضايا المعنويَّة، وتؤدي إلى إبعادِ وظيفة الفنِّ عن النُظم الفاعلة في تشكيل المجتمعات. غير أنها لا تملك  أن تجبرَ الأدب والفنَّ على أن ينزعا إلى ما هو نفعي بالمعنى الذاتي؛ دون تخريبِ البنية المنطقيَّة والأخلاقيَّة لهما. كتب ديوي في هذا المجال كتابَه الشهير: (الفنّ خبرة) أكّد فيه أنَّ الفنَّ مُرتبط ارتباطاً عضوياً بالحياة الواقعيَّة، وهذا ما توحي به لفظةُ خِبرة. وديوي يهاجم الفلسفاتِ المناهضة للواقعيَّة بحماس؛ ليعودَ فيطْلع علينا بصورةٍ لواقعٍ تختفي فيه مشكلات الناس؛ وهذا لم يحصل. وهو يؤكد على النهج “الاجتماعي” للفنِّ؛ لكنه يتنكَّر لتاريخ الفنِّ، والسبل التي اختطها في الحياة الاجتماعيَّة، وهذا حصل.يودُّ ديوي أن يكون واقعياً على نحو ما؛ بيد أنه يريد أن يتملّصَ من الإزعاج الذي تكشفه الفلسفة الواقعيَّة؛ التي تتقاطع مع مقومات الرأسماليَّة في قضايا مهمة، وإلا لمَ لمْ يجعل الفنَّ عنصراً مِن عناصر تشكيل الواقع؟.إنَّ نظرةَ ديوي تسلّم- وعلى غير المتوقع- بحتميَّة الدور الوظيفي للعمل الفني في الحياة؛ بحيث ينصاع إليها مُنظرُ الرأسماليَّة الأكبر. وبحسب رؤيتي فإنَّ هذا الانصياع اضطراريٌّ؛ لأنَّ ديوي عجز عن نفي الوظيفة أو إقصائها، لذلك عمِل على إلباسها ثوباً جديداً؛ من خلال جعْلها عنصراً داعماً للواقع البرغماتي (بعد تصنيعه)؛ وليس قبلَ أو أثناء تصنيعه. لذلك يحتاج النقدُ الأدبيُّ لأن يلاحظ كيف أنَّ الكثير مِن المواقف السلبيَّة تجاه موضوع الوظيفة الأدبيَّة لا ينبع مِن خلل في مفهوم الوظيفة؛ وإنما مِن مَصالح المؤسسات ذات النزعات النفعيَّة.

أصالة المعيار

لكي ينجحَ النقدُ ولا يكون مجردَ حاكم تعسفي يُدخل مفهومَي الجودةِ والرداءةِ في نطاق الشخصي، أو يتّخذ الانتشار والترويج قاعدة له، أو يلوي عنق النصوص لتنصاع لمدارس نقديَّة ما؛ فلابدَّ له من معيار ينظر إلى الجمال والهدف المعرفي والقيمة جميعاً على أنها ضرورات بشريَّة؛ مِن أجلها وفيها يحيا الفنُّ عمومُه والأدب. ويحصل أنَّ قسماً من المنافع قد تخدم فئة أو أفراداً؛ لكنها على المدى البعيد تفتك بوجودهم فتكاً؛ تحطم في طريقها ثقافة المجتمع أو تشوّهها إلى حدٍ بعيد. وإذا ما ركزت الثقافةُ على الأبعاد الفرديَّة أكثر مِن تركيزها على البنى الموضوعيَّة فإنَّ عناصر الثقافة ستصبح أكثر إيغالاً في التجريد والنزعة الذاتيَّة للواقع الحقيقي، وترتبط بالواقعِ المصنَّعِ قصداً، وهذه مشكلة النقد الحديث.يفضي خلعُ الفنِّ عن القيمة الاجتماعيَّة والثقافيَّة إلى انقطاع متزايد بين الثقافة والحياة، والنقدُ ليس حتماً عليه أن ينساقَ خلف مناهج مُستحدثة لكونها مستحدثة؛ محاولاً حجرَ جهوده داخل أسوار أحاديَّة التصور؛ لاسيما وهو يتطلَّع إلى غاية هدفُها تفعيل النشاط الأدبي ورفده بالقدرة على النمو، وبالتالي القدرة على دعم الحياة؛ على وفق أسس بناءة؛ وإلا فما مبرر وجود النقد. وقل هذا أيضاً مع النظريَّة الأدبيَّة. 

حدود الزمن

في الجديد غنًى، وفيه حداثة وتوافقٌ مع متغيرات الواقع؛ لكنّ هذا لا يعني أنَّه لكونه جديداً لابد مِن أن يكون كله صحيحاً، تماماً كما  أنَّ عمليَّة فحص الماضي لا تعني بالضرورة ارتداداً عن مثابات التطور، وفحصُ الماضي ليس نقيضاً للتجديد، والزمنُ ليس معياراً للأفكار، ولا لماهيات الأشياء إلا بحدود، لذلك فإنَّ أغلبَ الأفكار- من حيث المبدأ- قابلةٌ للمعايرةِ والتصحيح؛ لا للنفي إلا بحجةٍ ودليل.وبمعزلٍ عن كون الزمن كياناً رمزياً، وليس لأحدٍ تعريفه تعريفاً قاطعاً، إلا أنه يبقى رمزياً من حيث الإسهام في تغيير الأفكار والقيم، وليس عنصراً في الحكم على قيمة الأشياء. ولقد فطن ابن قتيبة إلى هذه القضيَّة فأراد أن يصحّحَ النظرةَ التي تضخَّمت في عصره، كما كان الحالُ لدى ابن سلام؛ الذي عدَّ الكثرةَ والقِدم مِعياراً للجودة؛ لذلك رفض في مقدمة كتابه طبقات فحول الشعراء معاييرَ الجودة التقليديَّة؛ واضعاً بدلاً عنها معاييرَ أكثر حيويَّة وتماشياً مع طبيعة الأشياء، يقول: (ولم أسلك في ما ذكرته مِن شعر كلِّ شاعر مختاراً له سبيل مَن قلد، أو استحسن باستحسان غيره… ولا نظرتُ إلى متقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر لتأخره، بل نظرت بعين العدل، وأعطيت كلاً حظَه). إنَّ النصَّ أعلاه يبيِّن أنَّ النقدَ الأدبي يمكن أن يغيّرَ معاييره ويصحّحها على أسسٍ تقتضيها صحةُ الحكم؛ خدمة لقيمة العمل الفني، وهذه القيمة لا تنحصر في ما هو زمني، ولا في ما هو نفعي؛ ويتمُّ هذا بالإفادةِ مِن تجارب الماضي أو الحاضر؛ دون جعلها معياراً للحكم؛ فليست تجاربُ الماضي بِدْعاً؛ لا بد مِن تجاوزها، لأنَّ مجاوزتها ليس بالضرورة تكون ناجعة، والجدةُ والحداثةُ من جِبلة الفنون؛ حين تأتي تلقائيَّة ونابعة من روحها. وإنها والبعد النفعي لا يمكنهما إلا أنَّ يتعاملا مع الواقع؛ ويؤثرا فيه بما يدعم الحياة والارتقاء الذوقي والجمالي والفكري. 

الغاوون

إنَّ البحثَ في عِلل انحسار الأدب لا يختصّ بالنظريَّة الأدبيَّة فحسبُ؛ بل إنَّ مناهج النقاد مسؤولةٌ عن كلِّ هذا أيضاً، وإلا هباءٌ كلُّ تعريفات النقد التي تصف نفسها بأنها تقييم وتقويم للفنّ، والنقدُ متى ما كان أحكاماً تخضع لنزعةٍ أحاديَّة انحلّت جدواه وصار عبئاً على الأدب. هل صحيح  أنَّ الحكمَ النقدي قاتلُ الإبداع؛ أو كما يقول صموئيل بيكيت: النقد الأدبي هو “استئصالُ رحم الإبداع بالمجرفة”!. نعم هو كذلك حين يتحوّل إلى عنصر ترويجي، ويكون النقاد غير حياديين، وأحكامهم تروّجُ لنصوصٍ أدبيَّة معينة على أنها إبداعيَّة، وأخرى أدنى مرتبة، من خلال الأحكام التي تطلق طِبقاً لخضوعهم لمدرسة نقديَّة أو منهج نقدي ما. وكم من مناهجَ صدّع النقادُ بها رؤوس الناس؛ وكتبوا مئات الكتب والأطاريح الجامعيَّة؛ لكن سرعان ما مجّها ورفضها أصحابها؛ بينما نستمرّ نحن في الخضوع لها ونجعلها معيار الحكم.ومن هنا فإنَّ التطوير الوظيفي للأدب يقتضي دراية وفحصاً مُعمقاً لتاريخ النقد الأدبي، ولكن ليس على صعيد القراءة الوصفيَّة، بل على مستوى الدراسة المقارنة وفحص النتائج؛ لاستخلاص الجدوى من المعايير والمناهج، على أن تُفهم الجدوى بعيداً عن البعد البرغماتي للمنفعة الفرديَّة؛ وبعيداً عن تحويل الأدب إلى خطاب إيديولوجي لا خَلاقَ له أعززه وجهة نظري برأي الدراسات الحديثة حول خواصّ الجمال والخيال، وكيف أنهما عنصران مِن عناصر المعرفة، فضلاً عن كونهما وسيلة للمتعة، وهذه الخواص لا تتعارض مع بعضها؛ مهما حاول أحدٌ أن يتعلّل بأنَّ للفنِّ هدفاً جمالياً فحسب، أو أنَّ البعد الوظيفي يعطّل المتعة والجمال، فهذه أسطوانة مشروخة؛ لا سند علمياً لها؛ في حال التزم الفنان بمفهوم القيمة وهدفها. أمّا إذا أصرَّ على الرؤية الأحاديَّة النفعيَّة؛ فهذا رأيه هو، ومَن لا يستطيع التوسع خارج دائرة المتعة لقصور ثرائه الثقافي فهذه قدرته، وله أن يقول فيها ما يشاء، لكن للموضوعيَّة قولها وبرهانها.وإذا كانت هناك نظرية أدبيَّة أقل ضجيجاً، ولم يكن هناك نقدٌ خاضع لمناهج معقدة نابعة من أحاديَّة الرؤية والخضوع المدرسي، فسيكون النقد أكثر إثراءً، وستنمو الثقافةُ ويرتقي الذوق وترتفع الأفكار. بينما يبقى النقاد السلطويون يراقصون جثثَ النصوص.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *