بغداد/شبكة أخبار العراق- على الرغم من عملية التجميل التي حاولت مفوضية الانتخابات العراقية أن تقوم بها لتحسين صورة الانتخابات التشريعية التي جرت السبت الماضي، بعد أن رفعت نسبة التصويت إلى أكثر من 44%، إلا أن الكل يعرف، وبالأرقام، وبالدلائل التي سجلها مراقبون محليون ودوليون، أن نسبة التصويت لم تتجاوز، في أفضل حالاتها، 25%، لتشكل صدمة كبيرة ومفاجئة لكل أرباب العملية السياسية في العراق.
وإذا كان هناك من تسميةٍ يمكن أن تطلق على ما جرى في الانتخابات، فيصح أن يُطلق عليها أنها كانت ثورة صامتة، وجه العراقيون من خلالها صفعةً كبيرةً وقويةً لوجه العملية السياسية التي فصلها الأميركان على مقاس شخوصهم الذين جاءوا بهم من خارج العراق، ليخرج الثوب الديمقراطي في العراق مرقعاً، متهرئاً، قصيراً على قامة بلدٍ مثل العراق.
ولكن لماذا لم يذهب العراقيون إلى صناديق الاقتراع، ويغيروا الوجوه الفاسدة التي أنهكت البلاد والعباد، كما دعاهم إلى ذلك دعاة الديمقراطية الأميركية والإيرانية؟ لماذا عزف العراقيون عن ذلك؟ على الرغم من كل الدعايات والتحشيد الوطني والديني والحزبي؟ .. تحمل متابعة يوميات المواطن العراقي، في مختلف مدنه، بين طياتها إجاباتٍ كثيرة على هذه الأسئلة. ولا جديد في القول إن العراقي بات اليوم يعيش كابوساً يومياً في مختلف مفاصل حياته، وإن هذا العراقي لم يعد ذاك الذي انطلت عليه كذبة الديمقراطية والتحرير التي روّجتها أحزاب وتيارات سياسية جاءت على ظهر دبابة محتلّ عقب 2003.
أدرك العراقي أن كل ما حوله زيف، فلا عمامة رجل الدين عمامة طهر وتقوى، ولا بدلة رجل السياسة بدلة دبلوماسي يريد مصلحة بلاده، ولا أحزابه أحزاب لها برامج سياسية، تسعى إلى تنفيذها، بل ولا حتى إعلامه إعلام، وإنما هو جوقة مطبلين لا يجيدون شيئاً سوى التسبيح بحمد مشغلهم ودافع رواتبهم. وقد أدرك العراقي أنه يعيش في وهم وكذبة مضى عليها أكثر من 15 عاماً، وكانت الانتخابات فرصةً للتعبير عن ثورته الصامتة بأن قال لكل هؤلاء لا، فلم يذهب إلى التصويت، وبقيت مراكز الاقتراع فارغة، بل لم يسجل وصول أي ناخب إلى بعضها.الملاحظ في انتخابات 2018 أنها جرت في أجواء يمكن أن يقال عنها مثالية في بلد مثل
“بات العراقي اليوم يعيش كابوساً يومياً في مختلف مفاصل حياته، وإن هذا العراقي لم يعد ذاك الذي انطلت عليه كذبة الديمقراطية والتحرير” العراق، فلا تهديدات أمنية تقارن بانتخابات 2014 أو 2010 أو 2005، ولا تخويف، ولا حملات إقصاء وإبعاد طاولت مرشحين، كما جرت العادة، ولا تضييق، بل على العكس، كانت مكبرات المساجد والحسينيات تحث الناس على المشاركة، ووفرت الحكومة كل الإمكانات من أجل دفع الناس إلى المشاركة، حتى حظر التجوال رفع بعد نحو ساعتين من انطلاق التصويت، ولكن المراكز بقيت فارغة.
الملاحظ أيضا أن نسبة الإقبال على التصويت كانت متدنية في عموم مدن العراق، بل سجلت المناطق السنية تفوقاً على المناطق الشيعية في بعض الأحيان من حيث نسبة المصوتين، وينطبق الحال على المناطق الكردية، ما يؤكد أن المقاطعة هذه المرة صبغت نفسها بصبغة عراقية خالصة، لا شيعية ولا سنية ولا كردية. وهو أيضا مؤشرٌ مهمٌّ وحيوي، يؤكد من جديد أن العراقيين يمكن أن يتغلبوا على الطائفية والعرقية المقيتة، إذا ما تخلصوا من عملية سياسية كرّست لهم كل هذه التقسيمات والتصنيفات.
عندما أدركت أحزاب السلطة وتياراتها أن الشعب العراقي لم يعد مقتنعا بالطائفية والعرقية، وأن تيارا جديدا تشكل ويتشكل في أغلب مدن العراق، يدعو إلى دولة المواطنة والتمدّن، بغض النظر عن التسميات الضيقة والفرعية، هو تيار آخر يريد العراق بعيداً عن تأثيرات دول الجوار، سارعت هذه التيارات والأحزاب، وأغلبها ذات صبغة دينية، إلى تبديل جلودها، فقدّمت نفسها أحزابا مدنية، بل وصل الحال بتيار مقتدى الصدر، رجل الدين الشيعي، إلى أن يذهب إلى التحالف مع الحزب الشيوعي الذي هو كافر بنظر تيار الصدر، وذلك كله من أجل أن يصلوا إلى قلب الناخب العراقي.
لم تنطل هذه الحركات الرخيصة على العراقيين، هذه المرة، بل كانت من أسباب العزوف عن الانتخابات، فالعراقي عندما كان يُطالب، في تظاهرات عديدة، بدولة مدنية، لا يريد أن يرى صاحب العمامة وقد استبدلها بربطة عنق، وإنما كان يريد أن يوصل رسالة إلى أحزاب السلطة أن لا مكان لكم، لا نريدكم، ولكن يبدو أن الكرسي وحزب الكرسي مغرٍ حد الموت واللعنة.
كان يفترض، وعقب نهاية يوم انتخابي طويل وشاق، أن تعقد مفوضية الانتخابات العراقية مؤتمرا صحافيا بعد إغلاق صناديق الاقتراع بساعة، تعلن خلاله نسب التصويت في كل محافظة، على اعتبار أن التصويت إلكتروني، وأنه أغلق بلا تأخير، غير أن المؤتمر تأخر أربع ساعات، شهدت وصول السفير الأميركي في بغداد، دوغلاس سليمان، إلى مقر المفوضية، وعقد اجتماعاً مغلقاً لتخرج بعد ذلك المفوضية، وتعلن أن نسبة التصويت كانت 44%.
ترفض أميركا أن تعترف بفشل عمليتها السياسية التي قادتها في العراق منذ 2003، وهو رفض يبدو أنه يمثل جزءًا من إستراتيجية واشنطن، لوضع تصورات المرحلة المقبلة، ليس في العراق وحسب، وإنما في عموم المنطقة.