لا تمنح بغداد ذاتها بيسر للسرد الروائي عراقيّا وعربيّا وعالميّا,فهي عالم من التاريخ الحي الذي يتعايش مع الواقع,وهي كتلة منالعهود والمصائر المحتدمة دوما.
بغداد اليوم ذات مجروحة مفعمة بالمرارة عبر سرديّات روائيّة كثيرة منها” عجائب بغداد” لوارد بدر السالم و” مشرحة بغداد” لبرهان شاوي و” اذا الأيام أغسقت” لحياة شرارة و” غائب من بغداد” للفرنسي جان كلود و” سيدات زحل” للطفية الدليمي و” الغلامة” و” التانكي” روايتا عالية ممدوح وسواها.
بغداد أيضا بنية شعبية ترسمها أو ترسم صورة جزء حيوي منهاروايات متعددة منها رواية خضيرعبد الأمير الغرائبية” ليس ثمة أمل لجلجامش” وبنيتها الشعبية في روايته التالية” هذا الجانب من المدينة” حيث بغداد في أربعينيات القرن العشرين وبدء تأسيس السينما العراقية عبر فيلم” فتنة وحسن”، ثم صراعات المثقفين وتجاربهم السياسية وتمرداتهم على السلطة خلال روايات مثل” خمسة أصوات” لغائب فرمان و” العقدة” لمحسن جاسم الموسوي و” الايام المضيئة” لشاكر جابر البغدادي، وصولا الى” القلعة” لفاضل العزاوي
و” الطاطران” لعبد الستار ناصر,تسبقهما” الوشم” وما تبعها من اعمال لعبد الرحمن مجيد الربيعي .
وليست هذه العينات من اكثر من مئتي عمل سردي عن بغداد كافيّة للتدليل على تأثيرات” بغداد”في الجهد السردي الخاص بهذه المدينة الضاجة بالكثير,حيث تبدو دراسة هذه الكتلة السرديّة، التي تتخذ من بغداد مركزا سرديّا، حيث هي المكان والأمل والحضارة والانكسار والتاريخ ،لا تبدأ الا بالاشارة غير العابرة الى البنية السردية الاساسية، التي اتخذت من بغداد مسرحا لمعظم نشاطاتها الدرامية,وليست تلك الكتلة السرديّة قادمة منذ عهود الا كتاب” الف ليلة وليلة” بأجوائه الغرائبية والتاريخية، وامتدادات تجاربه عبر مدن شتى مثل دمشق والقاهرة وسواهما.
وتظل بغداد مركز الخلافة العباسيّة في كتاب الليالي، مركزا للنمو الدرامي الذي يتشظى عبر المدن الأخرى، رغم ان الحكاية هي الاطار عن شهرزاد وملكها تتم في مكان افتراضي آخر.
أننا اذ نشير الى هذا الكتاب المعجز الذي صور تقاليد وعادات القصور والأسواق وشيوخ الاصناف والوان الجواري واللصوص وأصحاب المناصف والمجالس وصراعات البشر من أجل تحقيق الخير والشر، نقول إن دراسة أوسع عن” الف ليلة وليلة” تستحق أن تقارب عبر جهد أخر نفذته في مشروع تحقيق اسم المؤلف الحقيقي” أو المؤلفين” والرواة في بحث آخر , اضافة الى بحوث أخرى لسواي.
نعود الى موضوعة التشكيل السرديعن بغداد لنجد أن اتجاهات العمل الابداعي تتمثل بالتالي:
1 – بغداد التاريخية ونماذجها المتعددة في روايات جرجي زيدان التي صورت بغداد في زمن محدد من اجل قياس سردي آخرتاريخي أكثر مما هو معماري أوفني أو اجتماعي عام مثل روايات” ابو مسلم الخراساني” وفترة التأسيس الحقيقي للدولة العباسية و” العباسةأخت الرشيد ونكبة البرامكة، والأمين والمأمون” حيث الصراع على السلطة بين الاخوين
و” شجرة الدر” ومذابح المماليك في مصر وانعكاسات ذلك على بغداد زمن المستعصم وهو يخوض صراعا غير متكافئ مع الغازي هولاكو.
وبغداد هنا مجرد مهاد مكاني للعمل الروائي، الذي يستشرفتاريخ الحكم وصراعاته أكثر من بغداد
المدينة.
في رواية” أرض السواد” لعبد الرحمن منيف تجد نهجا حداثيا تكون فيه بغداد – مركز الأحداث – بطلة كسواها من الشخوص أمثال داود باشا وعلي رضا اللاز والسلطان، والمهاد التاريخي هو صراع المماليك والانكشاريّة مع السلطان محمود الثاني، اضافة الى موقف الشخصيّات البغداديّة المتنفذة من ذلك
الصراع.
في رواية علي بدر” الجريمة، الفن، وقاموس بغداد” تجد صورة تاريخيّة افتراضية عن بغداد عبر صراعات قضاة بغداد وزعماء الطائفة الخواجيّة، التي تمت صناعتها تاريخيا من قبل المؤلف تماهيا وافتراقا مع جماعة أخوان الصفا وخلان الوفا التاريخيّة البغداديّة
الغنوصيّة.
ان الفكرة الأساسية من محاولة هذه الطائفة جمع” قاموس بغداد” الافتراضي هي حفظ هذه المدينة وجعلها سلطانة العالم على الدوام أبد الدهر (ص39 من الرواية).
وكان إعلان المؤلف وصول الرسالة رقم 53 من رسائل” اخوان الصفا” مرسومة بيد يحيى الواسطي تمهيدا لتفجر الموقف بين الوزير العباسي والجماعة,حيث ان الحصول على المعلومة الاضافية (وهي الرسالة 53) يشكل قوة علمية واقناعيّة يحاول الوزير اختراقها بالحكم بالموت على زعيم الطائفة، ما يضطر رجالها الى الخروج من بغداد من باب السلطان الى الصحراء حمايّة، لانفسهم ولقاموس بغداد معا.
إن الرسالة رقم 53 لاوجود لها في رسائل خلان الوفا وهي إضافة جوهريّة من قبل علي بدر للكشف عن قدرة الجماعة الخواجيّة، للإضافة التاريخيّة الفلسفيّة لبغداد,هي اضافة فجرت موقف وزير بغداد من هذه الطائفة الساعية الى اعادة مجد بغداد المستباح قوة وعلما وحضارة.
بغداد في كل هذه الروايات المختلفة الاهداف والاشكال الأدائية صورة تاريخيّة قائمة تتعايش معها جهود الكتاب وهم يكشفون عن اجزاء من عالمها التاريخي المفترض والحقيقي، كما صنعوه ليسدلوا عن” الحقيقة ” التاريخيّة خيالهم وتأملاتهم، وفي قسم آخر نتحدث عن بغداد الحديثة سرديّا.