بين من يقاتل من أجل الكرسي… ومن يقاتل من أجل الوطن (في ذكرى ثورة تشرين 2019)
آخر تحديث:
بقلم:د. نوري حسين نور الهاشمي
8/10/2025
أنتم كان قولكم من أجل الكرسي، ونحن كان قولنا من أجل الوطن.أنتم جعلتم السلطة غايةً تتقدّم على كلّ شيء، ونحن جعلنا العراق غايةً لا يعلو عليها شيء.أنتم تقاتلون لتبقوا على الكرسي، ونحن نقاتل لتبقى الكراسي في خدمة الوطن لا فوقه.أنتم رفعتم راية الحزب والمذهب، ونحن رفعنا راية العراق حين سقطت الرايات كلها.بيننا وبينكم بونٌ في النية والوجهة والمصير، فأنّى يلتقي من يسعى إلى المجد الشخصي بمن يحمل همّ وطنٍ أثقلته خياناتكم وأطماعكم؟لقد عرفناكم حين لبستم لبوس المنقذين، فإذا بكم الوجه الآخر للكارثة ذاتها.جئتم بشعارات الإصلاح، فزاد الخراب.تحدّثتم عن العدالة، فاختفى العدل.ناديتم بالسيادة، فزادت التبعية.صرختم باسم الشعب، فجوّعتموه.تفاخرتم بالوطنية، فبعتم الوطن قطعةً قطعة. لقد صدّق الناس وعودكم حين كانت الذاكرة ما تزال مبللة بدماء الأمس، فظنّوا أنكم الخلاص.لكنكم لم تكونوا سوى امتدادٍ لماضٍ تغيّر شكله وبقي جوهره، ماضٍ تحكمه الشهوة ذاتها: شهوة التسلّط والثراء والكرسي.أنتم لا تعرفون معنى الوطن، لأن من يعرف الوطن لا يساوم عليه، ولا يضعه في مزاد المصالح.أنتم لا تفهمون أن الوطن ليس شركةً تُدار بالمحاصصة، ولا مزرعةً تُقسَّم بالرضا والتراضي بين الأحزاب.لقد جعلتم العراق مائدةً تتنازعونها، وكلّ منكم يمدّ يده ليأخذ حصّته من جسده المنهك، حتى صار الوطن مريضًا بكم قبل أن يمرض من عدوه. نحن لم نقف في وجهكم طمعًا بكرسي، بل دفاعًا عن وطنٍ نراه يُنهب أمام أعيننا.نحن من حملنا الخوف في قلوبنا والأمل في صدورنا حين صرتم أنتم عنوان الخيبة والخذلان.نحن من صدّق أن السياسة يمكن أن تكون خدمة، بينما جعلتموها وسيلة تملّقٍ وفسادٍ واستحواذ.أنتم تقاتلون من أجل أن تبقوا، ونحن نقاتل من أجل أن يبقى العراق.أنتم تتآمرون لتغلقوا أفواه الصادقين، ونحن نصرخ لأن الصمت في حضرة الخراب خيانة.أنتم تراكمون الثروات في المنافي، ونحن نحمل همّ الجياع في الأزقة والشوارع.أنتم تتبادلون المقاعد كما تُتبادل الغنائم، ونحن نتبادل الحسرة كلّ يومٍ على ما آل إليه الوطن. لو كان الوطن يملك لسانًا لصرخ في وجوهكم: كفى!كفى متاجرةً بالدم والمذهب، كفى تلاعبًا بالشعارات، كفى تزويرًا للوعي باسم الدين والوطن.لقد سئم الشعب من وعودكم، ومن مسرحياتكم الانتخابية، ومن لغةٍ تسكنها الأكاذيب وتغيب عنها الأفعال.اثنتان وعشرون سنة وأنتم على مقاعد الحكم، فأين الدولة التي وعدتم بها؟أين الكهرباء التي أصبحت نكتةً وطنية؟ أين السيادة التي تُخرق كل يوم ببيانات وتصريحات من وراء الحدود؟أين العدالة التي لا تراها إلا في وجوه خصومكم؟وأين الكرامة التي ذهبت مع آخر موظفٍ نزيهٍ طُرد لأنه لم يخضع لنظامكم؟أنتم تحكمون وطنًا لا تثقون به، وتخافون من شعبٍ تزعمون تمثيله، وتخدمون مصالح لا تمتّ إلى ترابه بصلة.كلّ ما تفعلونه هو إدارة الخراب بطريقةٍ جديدة، لا أكثر.لقد جعلتم الفشل سياسةً ممنهجة، والفساد ثقافةً متوارثة، والخذلان أمرًا طبيعيًا في قاموس الدولة.في كلّ دورةٍ انتخابيةٍ جديدة، تعودون لتحدثوا الناس عن الماضي، لتخيفوهم من عودته وكأنكم لستم امتداده الطبيعي. لكن الناس هذه المرّة لم يعودوا كما كانوا.لقد عرفوكم واحدًا واحدًا، وقرأوا وجوهكم كما تُقرأ صفحات كتابٍ مكشوف.هم لا يريدون أن يسمعوا خطبكم، بل يريدون أن يروا أفعالكم، وما رأوه يكفي ليدينكم أمام التاريخ.أنتم تحاولون اليوم إعادة تدوير الفشل، وتقديمه في عبوةٍ جديدة، لكن الرائحة واحدة، والنتيجة واحدة: وطنٌ يئنّ تحت ثقلكم.أنتم تتحدثون عن الوطنية وأنتم أول من خنقها في مكاتبكم، وعن المصلحة العامة وأنتم لا تعرفون إلا الخاصة، وعن الشعب وأنتم لا تقتربون منه إلا في مواسم الدعاية الانتخابية.نحن لسنا أعداءً لأحد، بل خصومٌ للفشل، أياً كان وجهه أو لونه أو عنوانه. نحن لا نحمل الحقد، بل نحمل الوعي.نحن لا نريد السلطة، بل نريد دولةً تُحترم، تُدار بالعقل لا بالولاء، وبالقانون لا بالهتاف.إن الجيل الذي نشأ بين أزماتكم صار يعرف حقيقتكم أكثر مما تظنون.جيلٌ لم يعد يُخدع بخطاب الطائفية، ولا يخاف من تهديدات التخوين.جيلٌ يرى الوطن في عيون أمهاته حين ينتظرن الكهرباء، وفي صبر العمّال الذين يكدّون لأجل لقمةٍ كريمة، وفي صمت الشهداء الذين رحلوا وهم يحلمون بعراقٍ لا ينهشه الفساد.هذا الجيل لا يطلب معجزات، بل يطلب دولةً تحترم الإنسان، وتضع الكفاءة فوق القرابة، والضمير فوق الولاء. لقد تعب العراقيون من التمثيل المزيّف، من وجوهٍ تغيّر خطابها ولم تغيّر نواياها، من وعودٍ تتكرّر كل أربع سنوات كالأغنية المملة.لكنهم لم يفقدوا الإيمان بأن العراق قادر على النهوض، لأن في كلّ بيتٍ عراقي شعلةً صغيرة من الصبر لا تنطفئ، وإيمانًا بأن النور سيعود يومًا مهما طال ليل الخراب.لقد آن للشعب أن يسأل: إلى متى يبقى الوطن رهينةً في أيديكم؟إلى متى تُقاس الكفاءة بالولاء، ويُكافأ الفاسد بالمناصب، ويُعاقب الشريف بالإقصاء والتهميش؟إلى متى يبقى العراق ساحةً لتصفية الحسابات، ومختبرًا لتجارب الفاشلين في السياسة والإدارة؟لقد سئم الناس من وعودكم، وسئموا أكثر من أعذاركم.كلّ أزمةٍ عندكم مؤامرة، وكلّ فشلٍ عندكم مسؤولية الآخرين، حتى صارت ذريعة “الظروف” لافتةً تُعلّقون عليها خيبتكم المستمرة. أنتم تتحدثون عن “الإصلاح” وأنتم أصل الخراب، وعن “التغيير” وأنتم حجر العثرة أمام أي تغييرٍ حقيقي.لقد ضاعت في عهدكم القيم كما ضاعت المشاريع، واندثرت النزاهة كما اندثرت المصانع.لم تتركوا زاويةً في الدولة إلا أصابها الشلل، ولا مؤسسةً إلا تسلّل إليها الفساد كما يتسلّل المرض إلى الجسد المنهك.أنتم من جعلتم المواطن يكره السياسة لأنها صارت مرادفًا للكذب، ويكره الانتخابات لأنها صارت سوقًا للبيع والشراء، ويكره الإعلام لأنه صار بوقًا لتمجيد الفاسدين.أفيقوا قبل أن يُغلق التاريخ صفحته الأخيرة عنكم، قبل أن يأتي اليوم الذي لا يجد فيه الشعب من يسمع صوته إلا الشارع، ولا من ينصفه إلا غضبه.فما عجزت عن تحقيقه صناديق الاقتراع، قد تُنجزه إرادة الجماهير حين تنفجر من رحم اليأس. ذلك أن الوعي حين يُقمع لا يموت، بل يتربص، وحين يثور لا يتراجع.لقد آن أن يفهم من يظن أن الوطن مزرعةٌ تورّث أو غنيمةٌ تُقسّم، أن العراق ليس ملكًا لأحد، بل أمانةٌ في أعناق الجميع.وأن من يخون الأمانة، سيكتب التاريخ اسمه في خانة العار مهما علا صوته اليوم أو كثرت حراسات قصره.أما نحن، فسنبقى نقاتل بالكلمة والموقف، لا نطلب منصبًا ولا نخشى سيفًا.سنبقى نؤمن أن العراق لا يُبنى بالشعارات، بل بالضمائر الحيّة، وأن الوطن الذي أرهقتموه سيقوم من تحت الركام يومًا ليحاسبكم جميعًا، لأن دماء أبنائه لا تُنسى، ولأن الكراسي تزول، أما العراق فيبقى خالدًا. فأنتم، يا من تملكون الكراسي ولا تملكون الضمائر، تذكروا أن الكرسي لا يدوم، وأن الوطن أكبر من كلّ حزبٍ واسمٍ وراية.والتاريخ، مهما تأخر، سيكتب أنكم كنتم العثرة الكبرى في طريق العراق، وأنّ من قاتل من أجل الكرسي زال، ومن قاتل من أجل الوطن بقي.لقد آن الأوان لتفهموا أن الزمن تغيّر، وأنّ الشعب لم يعد يسير خلف من يرفع الشعارات، بل خلف من يصنع الأفعال.فاحذروا من صبر هذا الشعب، لأن صبره حين ينفد لا يرحم، وصوته حين يعلو لا يُسكت، ولأن في كلّ صرخةٍ اليوم نواة ثورةٍ قادمة، عنوانها العراق فقط.