ما كان للنقد الادبي أن يكون علما يعرفه أهل العلم به لولا أنه أبدل التأثر بالحيادية واستعاض عن الإطلاق بالمعيارية متوخيا الحذر من مزالق المزاج ومسترشدا بالذوق جنبا إلى جنب الاكتساب ومدعما المعرفة بالدقة. وبهذا الشكل بنى نقدنا القديم أسسه الموضوعية على أنقاض مرحلة فطرية لم يكن النقد فيها إلا فطريا تأثريا ومن هذا النقد المعياري بزغ نقد النقد أيضا فصار الناقد القديم يقرأ لناقد سبقه أو جايليه مصوبا أو مقوما، فاحصا أو مضيفا. وكل ذلك مبني على وفق قاعدية معيارية ابتدعها الناقد العربي القديم بنفسه وسار عليها.. ولم يفارق الناقد الحديث هذا التوجه الدغماطي في نقد الادب عموما ونقد النقد تحديدا إلا مع مجيء نقد ما بعد الحداثة وما فيه من نظريات القراءة والتلقي ونقد استجابة القارئ وغيرها. وتأتي هذه المقدمة في معرض التعقيب على مقالة نشرتها ثقافية جريدة الصباح يوم 26/ شباط / 2017 بعنوان( عنف النقد العراقي والإخلال بالمنهج العلمي) للدكتورة لقاء موسى وما شدَّ انتباهي في المقالة هو عنوانها الذي امتاز بنزعة اطلاقية من ناحيتي التوصيف المكاني والتعميم الزمني ناهيك عن الثيمتين المؤسلبتين(العسف والإخلال) . ولقد أودعت هذه المقصدية في التعميم،النقد الادبي في قفص الاتهام مدانا لا متهما ومن دون دفاع يذود به عن نفسه أو محام يتولى تبرئة ساحته. ولا غرور إذا قلنا أن نقدنا العراقي اليوم في أحسن حالات يقظته وهو يشق طريقه بين النقود العربية شامخا بموضوعيته مكافئا الآخر وقد يتفاضل عليه . وهنا نتساءل : ترى من أين أُستقيتْ محصلة العنوان فحواها، أهو تحصيل عن تمحيص لخريطة النقد الصحفي وغربلة ما بعدية للمنجز النقدي المنهجي الأكاديمي وغير الأكاديمي؟ وهل لحاكمية هذا التعميم استثناءات ؟ وعموما فان المنهج وسيلة الناقد إلى الحقيقة وهو ايضا الجُنة التي بها يتوقى الناقد من سهام المزاج الطائشة وبما يضفي على اشتغاله النقدي سمات العلمية والحيادية والموضوعية ناهيك عن تحليه بالحداثة وتجاوزه لكلاسيكية الرؤية السياقية. ولقد غدت المنهجية سواء في حقل النقد او نقد النقد سمة كتابية ترافق النقاد الأكاديميين وبعض النقاد غير الأكاديميين، فهذا الناقد عبد الجبار عباس يتنبه الى وظائفية ناقد النقد الادبي وما يمكن أن يعتري المشتغل فيه من سلبيات التشدد والمغالاة فيقول : ( تشددُ النقاد إزاء كتابات النقاد ظاهرة ايجابية سليمة وضرورة لا محيد عنها اذا ما اريد للنقد الادبي ان يستقر على اسس سليمة صلبة ففي حين يمكن لاسهامات الادباء النقدية ان تقف عند حدود النظرة الجزئية دفاعا عن الذات أو تبريرا للانجاز الفردي أو تلمسا لوجوه الشبه والاختلاف بين التجارب الأدبية فان إضاءة الناقد لعمل الناقد يمكن بتوفر شرط الموضوعية والتجرد ان تكون مدخلا إلى حوار ايجابي مثمر يكشف أبعاد العمل وشخصية مؤلفه وموقعه من تراث النوع الادبي) في النقد القصصي 1980ص307 وهذا التشخيص الفذ لهذا الناقد المبدع إنما يدلل على نظر ثاقب للوظيفة المبتغاة من نقد نقدنا لبعضنا.. وما كان لعبد الجبار عباس أن يكون بهذه النقدية المميزة لو لم يكن التذوق الفطري منغمسا في روحه وكأن الحس النقدي متجذر في اشتغالاته وتحليلاته ومن دون ان يستند الى نظرية او يرتكن الى منهج ..بمعنى ان الاستعداد الداخلي هو الذي أهل هذا الناقد لان يضع لنقد النقد معيارية قرائية يستشفها من عندياته استشفافا ويبني بذائقته ضوابط التحرك والانتهاج انطلاقا من وازع فني وقدرة حقيقية على التشخيص والرصد . اما الاطلاقية والحاكمية فلن تغدو الا مزالق خطيرة ينبغي أن يتوخى الناقد الادبي الحذر منها ولعل أهم تلك المزالق أنها قد توقعه تحت طائلة ما يراهن عليه ويخشاه اعني إساءة الفهم وغياب الحقيقة.. ولا عدول عن الاطلاق الا بالتخصيص ولا بديل للتعميم الا بالتشخيص وبهذا يتجنب الناقد الخطل وسوء الفهم فلا يستعمل عبارة الا عن استبانة او احصاء واستقصاء والا سيتحول نقد النقد من تعضيد وبناء الى مجرد تقويض وتهشيم وستختفي النزعة الايجابية ليحل محلها الوازع المؤسلب وستضيع فرصة الحوار التي بها نضمن بلوغ الغايات بلا تهويل ولا انتقاص ولا معارك هيجاء. ولا مناص من أن اطلاقية توصيف النقد العراقي بـ(العنف / الوهم / الاخلال / التمني) ستحيله الى وجه كالح ليس فيه ما يرتجى منه حيث لا مفر امامه سوى الاسلبة.. ومن ثم سننفض ايدينا عنه ونودعه بالضربة القاضية غير مدركين أن النقد العراقي اليوم وصل الى مراتب مهمة وبلغ من الاوج ما لم يبلغه في أي مرحلة أخرى على ايدي اساتذة نقاد بهروا النقاد العرب بطروحاتهم وشيدوا صرح أكاديمية نقدية مرموقة توسم بأنها عراقية تضاهي الاكاديميات العالمية حتى صار يحسب للناقد العراقي اكثر من حساب وما ذلك الا لكونه أخلص لوظيفته النقدية بأمانة مبتغياالمعرفة والاستزادة منها، معطيا غير آخذ.