القناع والشخصية الروائية

القناع والشخصية الروائية
آخر تحديث:

فلاح رحيم

سأنتهي إلى مناقشة خلاف نقدي طريف حول منهج فيودور دوستويفسكي في رسم شخصياته الروائية. لكني أبدأ من أبرز مظاهر جناية الشعر على الرواية في ثقافتنا العراقية الحديثة، وأعني به ضمور الشخصية الروائية وشحوبها. وأصل المشكلة، كما أرى، يكمن في الاختلاف الدقيق بين مفهوم القناع الذي شغل النقد العربي للشعر ردحاً طويلاً من الزمن ومفهوم الشخصية الروائية. يؤكد النقاد المهتمون بمفهوم القناع انه محاولة الشاعر عبر شخصية تاريخية أو أسطورية التعبير عن قلقه أو مُثله أو استكشاف منظوراته المتناقضة دون أن يضطر إلى تبنّيها بصوته الخاص.
الشخصية الدائرية

الشخصية الروائية تحتفظ بالمقابل باستقلال أكبر عن ذات الروائي وتمتاز بتجذرها في الواقع، فهي تنتمي إلى طبقة اجتماعية معينة، وتنشط في بنية اجتماعية متطورة ومعقدة، ولها دوافع مختلطة يصعب اختزالها، وتتفاعل مع عدة شخصيات أخرى في خضم تجارب يومية أو متخيلة وثيقة الصلة بالوجود الاجتماعي. يبدو هذا التعريف للشخصية الروائية أقرب إلى مفهوم الشخصية الدائرية (مقابل المسطحة) لدى إ. م. فورستر، لكن معظم أنماط الرواية التي استقرت في المعتمد العام للأدب العالمي تلتزم به إلى هذا الحد أو ذاك. ذلك أن الواقعية في تصوير الشخصية الروائية ليست خياراً يمكن تبنيه أو الاستغناء عنه دون التفريط بهوية الانتماء إلى هذا الفن (دعاة اللاواقعية والواقع البديل دمجوا الأجناس الأدبية وصاروا يتكلمون عن النص بديلاً عن الرواية، فهنيئاً لهم!). ليس المقصود بالواقعية هنا الحركة الأدبية التي ازدهرت في أواسط القرن التاسع عشر في أوروبا، بل الواقعية بوصفها نمطاً متواتراً في مختلف مراحل الأدب وأشكاله يخرج بالأديب من مختبره التجريبي الشاحب ويتجه به إلى تمثيل الحياة الإنسانية وتجاربها عبر وسيلة الأدب (وهي بذلك تشمل روائياً مثل فرانز كافكا).
تبقى مشكلة العلاقة بين الشخص والقناع والشخصية الروائية مصدر التباس وخلافات نقدية متشعبة. ولكي أشخص جذر الشحوب الذي يمكن أن تصاب به الشخصية الروائية سأتوقف هنا عند فصل من فصول السجالات النقدية المطولة بخصوص الفن الروائي لدوستويفسكي وما استقر من بديهيات بصدده لأنتقل بعدها إلى ناقد تحدى هذه البديهيات ونبهنا إلى سرّ محوري في عظمة هذا الروائي الفريد.
قراءات متعددة
هنالك ثلاث قراءات رئيسة لدوستويفسكي تنافست على امتلاك المفتاح التأويلي لفحوى رواياته وأسست لصورته النقدية السائدة. الأولى هي القراءة الماركسية التي ازدهرت في الاتحاد السوفيتي السابق، والتي قرأت دوستويفسكي بوصفه البؤرة التي تتجمع فيها خيوط المجتمع الروسي لتعبرعن قوة الدفع التقدمية للأفكار الثورية الجديدة الداعية للتغيير. التيار الثاني يمثله ميخائيل باختين ونظريته المعروفة عن التعددية البوليفونية التي تمنح شخصيات دوستويفسكي استقلالها الفكري عن المؤلف إلى حد يجعلها تخالفه وتتحداه وتختلف فيما بينها دون تدخل منه. أما التيار الثالث الذي يزداد دعاته في يومنا هذا فإنه يقرأ دوستويفسكي كاتباً متشبثاً بالعقيدة المسيحية الأرثوذوكسية مقابل التيارات العدمية الثورية في يومه، وهي قراءة تجعلنا ندرك ونحن نطلع على تفاصيلها مدى الجهد الذي بذله الماركسيون لتقديم قراءة مضادة تماماً. أبرز دعاة التيار الأخير وأفضلهم هو الناقد وكاتب السيرة الأميركي جوزيف فرانك الذي أصدر كتابه الضخم عن سيرة دوستويفسكي وفنه في خمسة مجلدات ثم اختزلها في مجلد واحد بعنوان “دوستويفسكي: الكاتب وعصره”.
على الرغم من الاختلافات البينة بين هذه التيارات الثلاثة فإنها تكاد تتفق جميعاً على التعامل مع شخصيات دوستويفسكي على أنها أشباح ناطقة بأفكار وأيديولوجيات ومواقف. لكن هنالك من انبرى ليشاكس هذا التمركز الاختزالي على الأيديولوجيا والفكر بتقديم قراءة نفسية للروايات. وأبرز هؤلاء الناقد والأكاديمي برنارد ج. باريس الذي كرس جلّ حياته الأكاديمية لمقاربة الشخصية الروائية عبر منظور نفسي، واعتمد في مقاربته هذه أبحاث المحللة النفسية الأميركية كارين هورني، وهي صاحبة نظرية متكاملة في أنماط الشخصية لا مجال
إلى الخوض فيها هنا. يكرس باريس كتابه “أعظم شخصيات دوستويفسكي” (بالغريف ماكميلان، 2008) لإعادة قراءة ثلاث روايات أساسية له هي “في  قبوي” و”الجريمة والعقاب” و”الأخوة كرامازوف”. وقد اختارها لاعتقاده أن شخصياتها المحورية تفوقت في حيويتها وعمقها على غيرها.
يتصدى باريس في كتابه هذا لأهم نقاد دوستويفسكي. فيعترض على قناعة جوزيف فرانك بأن هذه الشخصيات مستمدة من البنية الفكرية لمنتصف القرن التاسع عشر في روسيا وجعله السيكولوجيا تابعة للأيديولوجيا لدى دوستويفسكي. يعتقد باريس أن هذه الشخصيات تبدي مواقفها الفكرية المتطرفة نتيجة دوافع نفسية مستمدة من العالم المحيط بها وما يعنيه من علاقات ومشاعر وسلوكيات بالنسبة لنمطها الشخصي. وقراءاته في الروايات تثبت دقة الرصد النفسي لدى دوستويفسكي الذي يتفق بدقة مع قناعات هورني النفسية المتخصصة. وهو ينبهنا إلى ما يسميه “فائض التفاصيل” في تقديم دوستويفسكي لشخصياته؛ أي ان ثراء التفاصيل التي تتوفر عنها يفوق ما يحتاجه القارئ لمتابعة الحبكة والسرد. وهذا الفائض هو سرّ حيوية هذه الشخصيات ونزوعها إلى الانفلات من كل قيد تأويلي يحاول اختزالها فكرياً، بما في ذلك قيد المؤلف نفسه. وعلى الرغم من أن باريس يتفق مع باختين في أن المحرك الأهم لشخصيات دوستويفسكي هو الصراع بين “انفتاحها الداخلي” من جهة ومستلزمات “الاكتمال التأليفي والموضوعي” لوظائفها في سياق السرد من جهة أخرى، إلا أنه يختلف مع استنتاجه في أن هذا الصراع ينتهي إلى وحدة فنية شاملة وانسجام متعال. هنالك بالنسبة لباريس تناقض متواصل بين هذه الشخصيات مكتملة البناء والأدوار التي يُفترض أن تلعبها في الروايات.
قد لا تفي هذه الاشارات كتاب باريس حقه (وهو جدير بالترجمة إلى العربية)، لكني أعود إلى النقطة التي انطلقت منها. لا يمكن للشخصية الروائية الحيّة التي يتفاعل معها القارئ بوصفها كذلك أن تخلو من بُعد نفسي يعيدها إلى الشخص الذي انبثقت منه. إن أسقط الروائي البُعد النفسي لشخصياته وحوّلها إلى أقنعة أسطورية أو تاريخية أو أيديولوجية فإنه إنما يُسقط هويته الروائية عنه ويتحول إلى شاعر أو فيلسوف. المؤكد أن تطرّف باريس في منح الأسبقية للبعد النفسي لا يخلو من مبالغة. تبقى روايات دوستويفسكي بوتقة فكرية محتدمة وقودها النفس الإنسانية في مقاومتها أي اختزال. يكمن الكشف بخصوص الشخصية الروائية في المنطقة الفاصلة بين بديهيات باختين وفرانك ونقد باريس لها.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *