القيم المنحازة بين المؤرخ والروائي

القيم المنحازة بين المؤرخ والروائي
آخر تحديث:

  بغداد/شبكة اخبار العراق- كلاهما المؤرخ والروائي يعتمدان الماضي باحداثه ووقائعه لإنشاء نصوصهما ضمن بنية سردية تخييلية تاريخية، فـ التاريخ بهذا المعنى لا يُعرف إلا من خلال نصوصه وآثاره، وهي نصوص لا تمثّل الماضي بصورة شفافة أو تامة ومكتملة. وهذا التمثيل المنقوص والملتبس الذي يسم “كتابة التاريخ” هو الذي يجعل هذه الكتابة أقرب إلى الكتابة الأدبية والسرد التخييلي ؛ لأن التاريخ – كما يقول جونثان كولر – لا يكشف عن نفسه إلا بشكل سردي، وفي قصص صمّمت لتنتج المعنى من خلال التنظيم السردي. وهي الفكرة التي ركز عليها بول ريكور وهايدن وايت، واحتفى بها التاريخيون الجدد وكتاب ما بعد الحداثة. فالتاريخ إنشاء نصي للماضي، وهو إنشاء ذو طبيعة سردية وتخييلية. “الرواية واعادة تحبيك التاريخ .
وكلا تجربتيهما تتسمان  بالزمنية وشرط التحبيك بوصفه إعادة انتاج تاريخي/ زمني ، يضفي على الأحداث والوقائع التاريخية الاتساق والانسجام والمعنى ضمن حكاية ما تخضع للتمحيص والانتقائية، اذ أن الطابع المشترك للتجربة الإنسانية المميز ،  والمتمفصل والموضَّح من لدن فعل الحكي في جميع أشكاله، إنما هو الطابع الزمني، بمعنى أن كل ما نحكيه يحدث في زمن، ويستغرق زمناً، وكذلك فإن ما يحدث في الزمن يمكن أن يحكى ، بل إن ما يوصف بالزمنية لا يكون كذلك إلا بقدر ما يكون قابلاً للحكي بطريقة أو بأخرى. 
استنادا الى ماتقدم، نخلص الى القول بأن أي حقيقة، سواء كان مصدرها مؤرخا أم روائيا، هي حقيقة نسبية خاضعة الى المراجعة والتحبيك، وتبقى مسألة المصادقة من عدمها على الحدث التاريخي أو الروائي،  مسألة تعتمد على قوة الحجة والبرهان والإقناع  النصي، خاصة ان الحبكة  لم تعد مجرد وسيلة تقنية لإعادة ترتيب الأوراق بشكل متسلسل متتابع وايجاد روابط مابين الأحداث فحسب، بقدر مايصاحب هذه العملية التقنية النزوعات الايديولوجية للمؤرخ او الروائي للخروج من دائرة ( القيم المحايدة) الى دائرة ( القيم المتحيزة) او المحددة الهادفة، فخلاصة الأمر أن الأحداث التاريخية مجردة من أية حبكة ثقافية تكون ذات “قيمة محايدة”، وهي لا تكتسب قِيَماً متحيّزة (غير محايدة) إلا حين تتشكل ضمن حبكة من الحبكات السردية المعروفة في الثقافة بحيث تكون بطولية أو تراجيدية أو غيرها (المصدر ذاته ) . 
انطلاقا من عملية التحبيك وقيمها المتحيزة ( وهنا التحيز ليس بالفهم السيء بوصفه انصرافا لا موضوعيا عن قضية ما،  بقدر ماهو وجهة وتحديد وهدف وموقف)،  وبقدر ماهو التزام اخلاقي ومسؤولية لازمة تستدعي ان يكون الكاتب ( منحازا) خارج نصيا،  مشتبكا مع مايدور حوله وماعاشه ووصل اليه، لا أن يكون حياديا نصيا غاطسا في ذاتوية خانقة،  منفصلا عما يدور حوله،  وكأنه من كوكب آخر، وكثيرة هي الروايات  ذات الطابع الذاتوي التي مرت مرور الكرام من دون أن يلتفت اليها احد لأنها لاتعني سوى صاحبها.  نقول انطلاقا من التحبيك وعلى ضوئه وكيفياته ، سنقارب رواية نجم والي الموسومة بـ ” بغداد… مالبورو ” للتعرف على حيثيات هذا التحبيك وكشوفاته  وقيمة المتحيزة . 
تتلخص حكاية “بغداد… مالبورو” بعلاقة ضابط طبيب بيطري مع جندي شاعر يدعى سلمان ماضي،  تجمعهما مشتركات كثيرة، منها شغفهما بالادب  وشعورهما بـ اللاانتماء الوجودي  ورفضهما للواقع السياسي والاجتماعي العراقي على مختلف حقبه الزمنية عبر الحوارات المباشرة بين الاثنين ومن خلال الرسائل التي كان يبعثها سلمان لصديقة الضابط ، وتتضافر مع حكاية الضابط والجندي بوصفها حكاية اطارية مجموعة من الحكايات الفرعية كحكاية ( أحلام) المومس / الضحية حبيبة سلمان وغيرها من الحكايات  لدعم خطاب الرواية الذي يتمحور على إدانة ماتعرض ومايتعرض اليه العراق من مآس وبشاعات ومظالم وقهر واستلاب سياسي واجتماعي وثقافي عبر مراحل حروب الطاغية المجانية  وسياساته الديكتاتورية البربرية، حيث يغطي نجم والي بإرسالياته السردية الحرب الايرانية وحرب احتلال الكويت وحرب الاطاحة بنظام الطاغية وما بعدها.  وضمن أرشفته السردية لمآسي العراق يوثق نجم والي جريمة دفن الجنود العراقيين وهم احياء في خنادقهم من قبل الجيش الاميركي ابان حرب تحرير الكويت، اذ ينصب شاعره المتخيل سلمان ماضي شاهد اثبات على هذه الجريمة. هذه الجريمة التي تحدث شرخا نفسيا عميقا لدى الشاعر يترك على إثرها عائلته، ويسكن في أحد بيوت باب المعظم الوضيعة، كي يخلو مع نفسه، لتأمل فداحة ماحدث ويلتحق به صديقه الطبيب البيطري بعد ان هجر من بيته عنوة. 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *