النقد الأكاديمي العربي للشعر .. ثرثرة مستعادة

النقد الأكاديمي العربي للشعر .. ثرثرة مستعادة
آخر تحديث:

محمد مظلوم 

في العلاقة بين حركة المشهد الشعري، والدراسات النقدية المتّصلة به، تبرز مشكلة اجترار الأبحاث النقديَّة في الجامعات العربية، فنحن نعرف أن طه حسين كتب كتابه عن المعرّي لنيل شهادة الدكتوراه، وكذا الحال مع أدونيس في «الثابت والمتحول». ومع أنه من غير الصحيح أن يشطَّ بنا التفاؤل لنطمح بولادة طه حسين أو أدونيس جديدين، مع كل رسالة أكاديمية جديدة، إلا أن ما أردت أن أنبِّه إليه هنا، أنَّ حقل الدراسات الجامعية وحده لا يمكنه أن ينتج نقداً، ما لم يكن الناقد نفسه مُنغمراً أصلاً في معترك المشهد الثقافي وتضاريسه الصعبة عمقياً وتفاعلياً، لا أن يضيّق مساحته المعرفية ويقصرها على المؤلفات والدراسات الأكاديمية السابقة، فطه حسين كان ناقداً وأدونيس شاعراً قبل أن يكون أيٌّ منهما دكتوراً!وحين يصدر كتابٌ نقدي من العراق يتعلَّق بدراسة الشعر الحديث، سيكون مناسبة جيدة لمعرفة تلك الصلة بين حقل الدراسات الأكاديمية وبين فضاء المشهد الشعري، في بلدٍ احتضن حركة شعرية اسهمت في إحداث انعطافة واضحة في تاريخ القصيدة العربية في القرن العشرين.
كتاب «سفر التكوين الشعري/ قراءة في القصيدة الدرامية في الشعر العراقي الحديث» للأكاديمي أحمد مهدي الزبيدي، وهو في أصله رسالة جامعية، انموذج مناسب لكشف تلك الصِّلة الهشَّة بين الجامعة وراهن المشهد الشعري، وقياس مدى انشغال الأكاديميات العراقية المعاصرة باستعادة مقولات تراكمية، من دون تجديد أو مساءلة، فالكتاب يستغرق في شروحات مستفيضة لا تخلو من الثرثرة غير الضرورية، والإطناب الزائد الذي يفتقد إلى الاجتهاد وتوسيع القريحة النقدية. كما يُظهر لنا كيف يتحوَّل الناقد إلى حاطب ليل مع مصطلح نقدي غير مهضوم معرفياً، وهو يتجوَّل به في ليل القصيدة لتكريس وَهْم الكشف عن استبطاناتها الفنِّية، بأدوات لا تصلح لتلك المهمَّة.
يفترض الزبيدي بدءاً، أن عناصر التشكيل الدرامي في أصلها عناصر مسرحية وسردية دخلت إلى الشعر من النثر! مع أن الثابت منذ أرسطو، أن الشعر هو «آدم» الفنون الكتابية المنتظمة الذي تناسلت منه الحكاية الفنية والمسرح. ليلخّص لنا أشكال القصيدة الدرامية بأربعة مباحث يقارب كلاً منها على انفراد، وهي: قصيدة القناع، قصيدة الحوار، قصيدة المفارقة، وقصيدة المشهد، بيد أنَّ هذه الأشكال ما هي في الواقع سوى ملامح عامة لا يمكنها منفصلة أن تشكّل قصيدة درامية بالمفهوم الدقيق للقصيدة الدرامية.
فعندما يبحث عن «قصيدة القناع»، فلا بدَّ من البياتي وإن تعدّدت الأقنعة الأخرى! مع أنه منذ دراسة إحسان عباس في نهاية الخمسينيات، التي قارب فيها ثنائية القناع/ المرايا، في شعر البياتي عبر أقنعة الأشخاص التاريخية والمدن القديمة من خلال ربطها بالأساطير، مروراً بما رسَّخهُ الراحل محسن أطيمش، في دراسته اللافتة «دير الملاك» وصولاً إلى دراسة زاهر الجيزاني «عبد الوهاب البياتي في مرآة الشرق»، لم يبق للبياتي وشعره قناع تقريباً ولا حتى وجه آخر! ليكشفه لنا الزبيدي في سفر تكوينه.
وحين يقتفي أثر «قصيدة الحوار» وتعدُّد الأصوات، وبما أنه يتناول النماذج من عناوينها، فإنَّهُ سيهرع مسرعاً نحو نداء بلند الحيدري في «حوار عبر الأبعاد الثلاثة» و «حوار في المنعطف»، وهو ما توفره عناوين بلند نفسه، وكذلك الحال مع «حوار عبر الهاتف» ليوسف الصائغ، ثم يستفيض في إيراد عناوين قصائد تبدأ بكلمة حوار ! فأيّ تأويل يمكن أن نتوقعه خارج هذا الشرح الآلي؟ أليست ثمة قصائد يمكن أن تستبطن فكرة الحوار من دون أن تعلن عنه بلافتة خارجية أو بعنوان مباشر؟
وعلى هذا النحو، يتجلّى الخلط في المفهوم النقدي عندما يدرس نمط قصيدة المفارقة، فهو يخلط بين مستوييها في القصيدة والسرد. عدا عن كونه يتوقف عند البعد البراني للمفارقة بالمعنى اللفظي، وليس بما تستبطنه من انحراف دلالي يخلق تصادماً في المعنى، فهو ينشغل بحدود التناقض في الألفاظ، ولا يعنى بالبعد التهكمي الضروري في «الآيرونيثيا الإغريقية» الذي يستوجب حضوره في المفارقة، فعندما يقرأ «أغنية في شهر آب» للسياب مثلاً، يكتفي بالإشارة برسم بياني إلى التضاد الظاهري بين «آب وتموز» في القصيدة، وعدا عن كون هذا التناقض ليس تضاداً صريحاً بقدر ما هو تعاقبٌ، فإنَّ غياب التهكُّم في البناء الكلّي للقصيدة يجعل من إحالتها إلى قصيدة المفارقة الدرامية نوعاً من الوهم النقدي. وهنا يعود إلى التخليط بين «قصيدة المفارقة» و «المفارقة الدرامية» في القصيدة، بمعنى أنه ينسى أنه يدرس القصيدة الدرامية، وينبغي عليه أن يتقصىَّ أشكالها وخصائصها، وليس «قصيدة المفارقة» أو المفارقة الكوميدية البحتة، فلا شك أن ثمة فرقاً أساسياً بين توظيف خصائص الدراما في الشعر، أو أن تكون القصيدة دراميةً في بنيتها الشكلية والمضمونية معاً، إنه تماماً مثل ذلك الفرق بين الدراما الإغريقية ذات المنحى البطولي في المطوّلات الكلاسيكية، وبين بنية الحكايات الشعبية والفولكلور التي تتمظهر أحياناً في نصوص معينة في شكل باروكي ليس أكثر .
وكذا الحال مع السياب حين يختار له قصيدة «عرس في القرية» نموذجاً للبناء الدرامي الكلي المزدوج، بينما تبدو قصيدة «المومس العمياء» على سبيل المثال وكذلك مطولاته الخمس، وهي نصوص لم يقاربها في هذا المبحث، انموذجاً أكثر مناسبة لقصيدة البناء الكلي.إزاء كتاب الزبيدي، يمكننا أن نتذكر كتاب «الأصول الدرامية في الشعر العربي» للأكاديمي جلال الخياط، لنعرف إلى أين يتّجه نقد الشعر في العراق.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *