توظيف الخرافة!

توظيف الخرافة!
آخر تحديث:

 بغداد/شبكة أخبار العراق- يقول “بارت” في كتابه “أسطوريات” إذا كانت للعصور القديمة أساطيرها فللعصر الراهن أساطيره أيضاً وربما خرافاته.. وطبعاً لا نستطيع أن نماثل بين الأسطورة والخرافة لكن الاثنين تشتركان في كونهما منتجاً يعتمد الوهم في بنيانه وأجزاء كثيرة من العقل البشري يسوقها الوهم وفي غرة تمخضاته قد يعود الى حقيقة ما. يمكن أن أحصر الدلالة أعلاه أن أعداداً غفيرة من المجتمع الانساني القديم وحتى الراهن هو تحت هيمنة سلطة الوهم والخرافة. يبقى تفسير الجمع بين الحقيقة المقترنة بالمنطق العلمي وبين الوهم من الصعوبة في عصرنا هذا.الثقافة والإبداع هما أول من احتضن الخرافة، اكتشفها الأدب والكتابة في اللحظات الأولى لانبثاقها فمسرحيات “يوربيدس”،”أسخيلوس”،”و سوفوكليس  تنطوي على مادة كبيرة من الخرافة. ويرى “ميشيل فوكو” أن العصور أو الأحقاب المعرفية لا تخضع إلى منطق التقدم التاريخي بدلالته الزمنية، أو على وجه الدقة، ليس هناك تراكم معرفي، انما هناك أحقاب معرفية لها سماتها, ربما تتقاطع مع الأحقاب التي تلتها أو تتمفصل معها، فربما نحن ننظر من رؤية عصرنا الراهن إلى خرافة القرون الغابرة نظرة ازدراء, ولكنها وفي لحظتها التاريخية التي ولدت فيها وشاعت كانت تعد منجزاً مقدساً لا يضاهيه آخر.المدهش في وضعنا الراهن ان المجتمعات الإنسانية، وهي في ظل أقصى تقدمها التقني على قدر من الشغف السحري والخرافي, وهذه مفارقات التكوين البشري, فمن يقدر على تفسير تفشي المجموعات الروحانية الخرافية في أعماق أوروبا الكومبيوترية؟! أعود فاقول أن في عصرنا الراهن توازناً ومقابلة بين الخرافة والحقيقة، ولكن هذه المعادلة تسري تحت راية التأويل والنسبية الشائعة في استقبال المعرفيات والثقافات. في القرون التي سبقت القرن العشرين كانت الثقافة أو الأدب يجريان وفقاً لمعرفيات إنسانية أحادية البنية فقط, ولكنها وبفضل تقدم التقنية في القرن العشرين أصبحت تختلط مع الحماسي التقني المضطرد، فالروائي في عصرنا الراهن أصبح لا يقتصر على نثرية-سردية أو رومانسية, إنما راح يلتهم المعرفيات “الأبستمولوجيا” برمتها, فلسفة وعلم, اقتصاد, تاريخ, علم الإشارات “سيميولوجيا”.لا أعتقد أن الإنسانية قد تخلصت من سلطة الخرافة والسحر تماماً, ربما يعد هذا سراً من أسرار الكينونة البشرية، وما يبرر هذا الاعتقاد هو ترجرج الحقيقة حتى العلمية الصارمة منها فالعالم الألماني “هاينزبيرغ” يعتقد أن هناك ثغرة في العلم ذاته فأطروحاته التي سماها مبدأ “اللاتيقن” تدعي نقصاً في قدرة الكثير من المعادلات الفيزيائية والرياضية على تفسير الظواهر الطبيعية, ويسوق مثلاً لذلك حركة “اللا الكترون” فهي عشوائية, ومحال إخضاعها إلى أنموذج رياضي, وفشل الكثير من العلماء الكبار في الفيزياء من ترويض هذا النشاط الالكتروني, بمن فيهم عالم الفيزياء الشهير “اينشتاين” ما أتاح للبعض منهم، أي هؤلاء العلماء المتخصصون بعلم الفيزياء اعتبار هذه الثغرة حضورا إلهيا روحانيا أو غير ذلك من الأطروحات, ومن الغريب أن هذه التأويلات أو الأطروحات هي من تتوجه إلى منجزات علمية باهرة. ولا يسعني هنا إلا الإشارة إلى أن الكثير من العلماء الأفذاذ في جميع الحقول يجمعون ما بين الروحانيات ذات الطابع الخرافي والنبوغ والبراعة العلميين.ينبغي تشبيه الحقبة الراهنة بأنها الحقبة المتشظية معرفياً على الأقل, فعلى صعيد الفلسفة لم تعد تشتمل على أسئلتها ومنظوماتها ومفاهيمها القديمة, فالفيلسوف الفرنسي (جيل دولوز) يعتقد بأن الفلسفة أصبحت الحقل الذي ينتج المفاهيم اللامنتاهية, والكثير من الحقول أصبحت تتعرض إلى هذا النشاط المتشظي, فإذا كان القرن التاسع عشر يسمى (القرن العقلاني) فإن هذه التسمية سقطت في ظل الظواهر الدينية والروحانية وحتى السحرية . وعلى صعيد الرواية كان الروائيون (بلزاك, سندال, ديكنز, تولستوي) تجري رواياتهم على شكل خط مستقيم ومتصاعد ومن ثم منحدر, أصبحت الرواية الآن مقرونة بالتفكك عند “ميلان كونديرا” والانفتاح المطلق على جميع المعارف في الرواية، مثلا، “شفرة دافنشي” لـ”دان براون” فهي تحتاج إلى معرفة تاريخية وسيميائية لبلوغ دلالاتها أو على الاقل ما ترمز إليه .كما ان الرواية السحرية التي انطلقت في أميركا اللاتينية, وظفت الخرافة بطريقة فذة، وذات نكهة فنية خاصة وأخاذة لتجمع ما بين العقلانية والخرافة. طبعاً من البديهيات أن هناك فرقاً بين ما يسمى بالسحر الأسود والخرافة وما بين الخيال الذي يقترب إلى حد ما من الخرافة, فأحد الشعراء يدعي بأن الجزء الأكبر من جسد القصيدة ينبني على الكذب، وهو يقصد طبعاً الخيال، وعكس ذلك يبقى الشاعر يخلق خرافته الجميلة المتصلة مع العقل.يعتقد الكاتب– المفكر” أريك فروم” أن الإنسان وفي كل عصر يحتاج إلى الوهم للبقاء، وربما هو يعتقد حاجة الإنسان للأمل ولو على مستوى الخرافة, فنحن نشاهدها تحيط بنا وتسيطر على العقول. العقلانيون يندهشون، ولكن أولئك الخرافيون فرحون في طيات أنفسهم. نحن لا نمتلك إلا أن نعتقد بأن لهذا العصر ميزته, فالثقافة هي الأخرى مخترقة من قبل الخرافة, فليكذب على نفسه من يقول بأنه لا يشاهدها متجسدة كل يوم قبالة عينه.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *