قصائد سركون بولص..اكتمال المعنى

قصائد سركون بولص..اكتمال المعنى
آخر تحديث:

بغداد/شبكة أخبار العراق- لابد للشعر أن يبقى على قيد الحياة. أن يحتفظ بشيءٍ من شغفه القديم، من حنينه إلى منابته الأولى: حين كان ابنَ الطبيعة، بكل ما فيها من تلقائيةٍ، وبكارةٍ وفوضى، وأن يبقى ابنَ الحلمِ تارةً والوهـمِ تارةً أخرى. حين كان حارساً لفظاظة الروح غير المقهورة، وصنو الجسد القادر على ارتجال مباهجه والاحتفاء بخساراته أو جبنه من دون حياءٍ كاذبٍ أو بسالةٍ مدّعـاة .
لقد شهد الشعر العربيّ فتراتٍ طويلةً من حياته، كان الشاعر فيها مفتوناً لا بالمعاني الكبرى، بل بالموضوعات الكبيرة التي لا تخلف وراءها، غالباً، غير الضجيج وهشيم اللغة. إن المعنى الكبير، الجارح، الملامس للألم العظيم أو البهجة الحارقة، قد يتولد من أصغر الموضوعات وأشدها خفاءً: من الهامشيّ، والعابر، من الملقى على قارعة الحياة، أو المركونِ في طرفٍ قصيّ من حركتها الظاهرة.
الكائن وشـعرية الوهـم:
في معظم قصائد سركون بولص، لا يتحرك في الأفق إلاّ الكائنُ اليوميّ، المهمّش، والمستلب، والملقى به بعيداً عن فرص الحياة وفعل التغيير والإرادة الحقة. هذا الكائن هو محورُ الدراما الإنسانية والشعرية لدى سركون بولص، التي تتمثل في هذا الارتـطام اليوميّ المريع بين طاقتين كبريين: عبـوديةُ الإنسان المهمّش وترف المخيلة المقهورة، ويصل هذا الجدل بين الإنسان المطحون بفعل الواقع والمنتشي بفعل الوهـم، إلى أقصى مدياته في قصيدته تحولات الرجـل العـادي:
أنا في النهار رجلٌ عاديّ
يؤدي واجباته العادية من دون أن يشتكي
كأيّ خروفٍ في القطيع، لكنني في الليل
نسـرٌ يعتلي الهضبة
وفريستي ترتاح تحت مخالبي .
زمنان يتقاسمان هذا النصّ، وينشطران معه: النهار والليل، زمن الابتذال وزمن الخصوصية، زمن القطيع الذي يسرح في حقلٍ من التماثل الفجّ، والرضا المهين. وزمن الفرد، الأعزل، الوحيد العائد إلى نفسه خلسةً، ليختلي بها ولا ثالث لهما إلا الليل وفريسته المنتشيةُ تحت مخالبه. يتمرد الليل على النهار بجسارةٍ هادئةٍ، مكتومةٍ مشتهاة. النهار والليل، يتجاذبان هذا الفرد بالتناوب: يسلبه العالم النهاريّ فرديتَه ويستعيدها في عالم الليل العامر بالأوهام والتجليات. إن هذا النص على قصره، حافلٌ بالصراع وإن كان مكتوماً وبالغَ التخفّي، نصّ تفترسه الثنائيات، ويؤججه التضاد، الأسطورة واللحظة الراهنة، البشريّ والبهيميّ، الليل والنهار، الرفعة والتدنّي، الأنوثة والذكورة، الأرضيّ والسماويّ، لذة الاستسلام، ووهم التعالي.
لكنني في الليل…
تشكل هذه العبارة نقطةً انشطار البطل: إنّ النصّ لا يستمر بعد أداة الاستدراك في جريانه السلس، الطيّع المخذول، بل ينتفض بقوةٍ مفاجئة، وذلك لا يحدث إلا «في» زمنٍ خاصٍ هو الليل. وكما كان حرف الجر هذا وسيلةً يندرج البطلُ من خلالها في نسيجٍ نهاريّ أملسَ ورتيب، فإنه هنا ينقلب على ذاته ليكون وسيلة البطل للدخول في الليل أو الحلول فيه. ويصبح الليلُ بدوره حاضناً لوهــمٍ فريدٍ من نوعه. ينخرط البطل في الجزء الليليّ من النصّ، ويحدث التحوّل بكثافةٍ وتنوعٍ كبيرين، إذ يتحوّل الزمن وتتحول الطبيعة والكائنات والأدوار والأمكنة. كل هذا يتم في هذا النسيج النصيّ القصير والمحكم. إن هذه التحولات محكومةٌ بمنطقٍ واحد، هو الشراسة والعلوّ والغلبة، فنحن أمام النسرية، والهضبة، والاعتلاء، والافتراس الشيق حقاً، افتراسٌ شرسٌ لكنه مليء بالرحمة واللطف، إذ ان الفريسة ترتاح «تحت» مخالبه، وكأنّ النصّ يثأر من الخنوع النهاريّ، ويبطش به، ويرتفع بالقســوة إلى مستوى الرقّة، وبالشراسة إلى مستوى الاحتضان الجسـديّ الحميــم.
سركون بولص لا يؤجل المعنى كليةً حتى نهاية النصّ، بل يوقد جزءاً من جذوة هذه الدلالة منذ البدء، ليهيئنا للدخول معه، إلى هذا الوهـم الذي يكشف عن ضعفنا الإنسانيّ، لا ليزيده ابتذالاً، بل ليرتقي به، عبر الاعتراف الملتهب والحميم إلى مستوى أسطوريّ ليليّ مفعمٍ بالمعنى، ومفارقٍ لعمومية البشر النهاريين، حيث الوضوح والتشابه والطاعة.
وقصيدته هذه تبلغ أقصى مدياتها في الاداء، فهي كثيفةٌ، مصقولةٌ حاسمة، وهي أيضاً إيروتيكيةٌ شجيةٌ وشديدةُ التكتم في آن، إذ إننا لا نسمع عويلاً، أو رثاءً للذات، أو تشهياتٍ فاضحة، وإن كانت القصيدة في حقيقتها تجسـد ذلك كله، ولكن بصفاءٍ نادر.

الكائن في حراسة الأيـام:
تشتبك قصيدته الأخرى أبي في حراسة الأيام بالزمن منذ بدايتها، فهذا الأب البسيط لم يدرك النهار بعد، لكنّه في بداياته تماماً: قبيل الفجر. وهو ليس سارداً ذاتياً للحدث بل موضوعاً للسرد. صورةٌ فريدةٌ في جسارتها. وحسيتها الطاغية، وتفاصيلها النضّاحة بالعذاب اليوميّ :
كان أبي في حراسة الأيام 
يشرب فنجانه الأول قبل الفجر، يلفّ سيجارته الأولى
بظـفر إبهامه المتشظّي كرأس ثومة. 
هو حارس للأيام إذن، موكلٌ بمراقبتها والسهر عليها خدمةً لسواه، يكمن لها في البدايات تماماً، ويدشن، وهو في انتظارها، أولى لذائذه اليومية: فنجانه الأول وسيجارته الأولى حيث يختلط فنجانُ الشاي والسيجارةُ والإبهامُ المتشظّي كرأس ثومةٍ برائحة فجرٍ وشيك .
وفي المقطع التالي، تتوهج الصورة الشعرية بنضارةٍ حسيةٍ عالية:
تحت نور الفجر المتدفق من النافذة، كان حـذاؤه الضخـم 
ينعـسُ مثل سلحفاةٍ زنجية.
الصورة الشعرية، هنا، بالغة الثراء حقاً. التهيؤّ ليومٍ آخر مليءٍ بالأعباء والمكابدات الجديدة. إن صورة حذاء الأب، رغم مجيئها متأخرةً في الجملة، تشحنُ المقطعَ باختلاجاتٍ خاصة. كما أن تدفق الفجر، والحذاءَ الذي ما يزال غارقاً في نعاسه، والسلحفاة الزنجية دوالّ لغويةٌ بادية التنافر والغرابة، إلاّ أن قدرةً تخيليةً مدهشة منحتها هذه الحياة في سياق حسيّ متماسك. هذا الحذاء لم يستيقظ تماماً، وكأن نعاسه امتداد لنعاس صاحبه الذي لما يكتف من النوم بعد بحكم العمل الذي يفرض عليه النهوض مبكراً. سلحفاةٌ ضخمةٌ تنعس تحت درعها الزنجيّ المتغضن، إنها إرهاصٌ بكتلة العناء اليوميّ، المقبل بكل ما فيه من سـوادٍ وقسوة .

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *