ما أوحى به السندباد

ما أوحى به السندباد
آخر تحديث:

 ياسين طه حافظ
حين أذكر الشعر الجاهلي، يحضر ذلك المشهد الدرامي المؤثر: شاعر قابع بعباءته على فرسه أو على ناقته، يمر بديار الحبيبة وهو متجه إلى حيث ينجو أو ينال أو يخيب فيعود..وحيُّ الحبيبة- أو الأهل، قد يكون عامرا خصيبا وسيغادره إن أمحل، أو يكون أطلالا يستنزل عليه القطر، كما تتنزل دموعه، وهو واقف يتأمل ما كان وما يعلم أنه سيكون. رثاء لما مضى، كما للنفس وفي الحالتين سيغادر، وغالبا عبر الصحراء..كل شراح القصائد ومحققي الدواوين يقولون بما ذكرناه. لا احد فكر أن قلقا وجوديا وراء الارتحال من مكان إلى مكان. ضائقة العيش، ووضوحها، تسحب التفسير إلى طلب الرزق والسعي للكسب في مكان آخر، في قبيلة أخرى أو بيت زعيم أو قصر خليفة أو سلطان.ظاهرة التنقل أو التجوال أو التسكع أو الهرب من الملل والكساد، ظاهرة لا تقتصر أسبابها على الحاجة للخبز أو المال. هي ظاهرة منغرسة في الطبيعة الإنسانية، وان الإنسان يضيق بالإطار والرتابة ويطلب حالا أخرى مختلفة، ألم ننتبه في أيامنا الحضارية، اليوم كيف نتوق للسفر وكيف نغير ديكورات المنزل، وكيف نعدل في بنائه أو نستبدله في مكان آخر وجوار ناس آخرين؟أسأل الآن: هل السندباد ممثل جيد لنا؟ هل ابتدعته مُخيلتنا البشرية لينجز ما نتمنى وليغير الأرض والمشهد والبشر والأحوال الاجتماعية، بل الخلاص مما سئمنا منه إلى جديد يبهجنا أو يجدد الحياة فينا؟ أيمكن أن نفسر الظاهرة بفكرة التقدم اللانهائي، هذا النزوع الكامن فينا، والذي يعلن عن نفسه في أشكال شتى؟ولكي نضيء المسالة أكثر، أسأل: لماذا تزداد الرغبة في السفر بزيادة الوعي حتى لتصبح حاجة شديدة نلهج بالحديث فيها؟ ولكي نتفحص الظاهرة، لماذا الأنظمة، الحكومات، الإقطاعيون، والملوك يخشون هجرة ناسهم أو عبيدهم، يشددون الرقابة عليهم ليظلوا في أمكنتهم؟ هل ليحافظوا على «وسائل الإنتاج».. الملائمة لبيئتها والتي هي تحت اليد أم انهم يعلمون إذا تمهَّدَ الطريق للرحيل سيرتحل أولاء وسيتبعهم الآخرون؟أما وقد تشعب الموضوع واستعصت الظاهرة، أنتبه لمسألة أغفلتها: هل كانت انفعالات المتصوفة حتى تظهر الرؤيا أو حتى ينكشف الطريق إلى الحق، هي أيضاً محاولة انتقال من الأرضي إلى السماوي، من الاعتيادي إلى السامي، من إل هنا إلى ال هناك؟وإذا ارتضينا بالقول: إن الأرض هي المنطلق الأول للأسطورة»، هل نكمل: أن كل فرد وان كل مجتمع بحاجة إلى اللامكان، أو المكان الغائب ليؤسس عليه يوتوبياه، أو ليجد ما يتمنى أو ما تريد روحه الخفية التواقة وفكره الذي لا يستقر؟ هل هو تمرد من الآلية الوظيفية، بالنسبة لعصرنا، واننانفزع إلى حيث نجد راحة وننجو؟ وهل الموت مفزع غير مرغوب فيه لأنه يوقف الحركة والانتقال ويردع الحيوية عن الحراك، فإذا التمّتْ، تلفت وما عادت بعد ذلك في الجسد حياة؟وأخيرا: هل الطلب الأبدي لحرية الفكر، هو رفض للانغلاق، وهو طلب مباشر وغير مباشر لتغيير الحياة، لاستمرار المسعى لحياة جديدة؟ وهل الرغبة في تحديث الأنظمة والمدن والحدائق…. تقع كلها ضمن خط التفكير هذا، وكلها استجابات لذلك النزوع في الانتقال إلى المختلف أوالأفضل؟ وهل يقع ضمن هذا طلبنا لأدب جديد، أسلوب جديد، أفكار أخرى، عوالم وأجواء أخرى يتحول فيها الأدب إلى ناقل عظيم إلى عالم آخر نبحث عنه، وهنا نرفض الأدب الراكد الذي لا جديد فيه؟ ثم هل هذا هو السبب الحقيقي الكامن وراء استنكارنا للمنع ومصادرة الحرية والذي أفادت منه السياسة؟ أسئلة كثيرة أوحى إلي بها السندباد!

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *