محمد الجزائري.. ابتسامة حيّة لم يهزمها الموت

محمد الجزائري.. ابتسامة حيّة لم يهزمها الموت
آخر تحديث:

عبد الرزّاق الربيعي  
في مطلع العام الجاري، حين كنت في الشارقة، مشاركا في مهرجانها الشعري، علمت بوجود الناقد محمد الجزائري الذي ودّع عالمنا الجمعة  الماضية، وكان في زيارة لابنته، فحرصت على اللقاء به، بعد سنوات طويلة، وقد تحقّق لي اللقاء، وكنت بصحبة الشاعر يحيى البطاط، في مقهى،  ذات مساءٍ حضرت به الذكريات، بقوّة، واتّفقنا على تكرار اللقاء في بلجيكا، وكنت مزمعا على السفر إليها، لكنّ اللقاء الموعود لم يتحقّق لوجود مسافة بين محل إقامته، والمدينة التي أقمت فيها، ممنيا النفس بلقاء آخر في زيارة أخرى قريبة
لكنّ الموت كان أسرع، إذ خطفه بعد تعرّضه لأزمة قلبيّة، فلفظ أنفاسه في مستشفی الجامعة في مدینة خنت البلجیکیة عن عمر يناهز 76 عاما، تاركا العديد من الإصدارات التي أبرزها: حين تقاوم الكلمة، ويكون التجاوز (دراسات نقدية معاصرة في الشعر العراقي الحديث) 1974، وهو أوّل كتاب نقدي أقرأه، وقد شدّني في ذلك الوقت أسلوبه الساحر، الذي ظلّ أهم ما يميّز كتاباته، في النقد، والصحافة، 
وسواهما، إلى جانب كتبه الأخرى: أسئلة الرواية (دراسة نقدية) جدل الرؤية والتسجيل في الرواية العربية المعاصرة 1989، مقامات الحريري (دراسة نقدية وكتابة ثانية للمقامات) 1990، خطاب الإبداع (دراسة نقدية حضارية) الجوهر، المتحرك، الجمالي/1993، الجوّاب يتذكر (دراسة نقدية وسيرة)، خطاب العاشق (ميثولوجيا ورؤى) 1996 من الواقعية إلى الفنتازيا (دراسة نقدية تشكيلية)، المشهد التشكيلي في العراق، حالات عشتار (دراسة نقدية وسيرة)، النحت العربي المعاصر: (رؤى وتجارب)، إلى جانب العديد من سيناريوهات الأفلام التسجيليّة، والنصوص الإبداعيّة. وله جهود في الصحافة، فقد أسس مجلات ومطبوعات متخصّصة، من بينها مجلة”رواق” المتخصصة بالفنون التشكيليّة،  كما لعب أدوارا قيادية في العديد من المجلات كمجلّة”فنون” التي ترأس تحريرها لسنوات .
خلال تلك الجلسة التي استمرّت إلى أن أغلق المقهى أبوابه بعد الثانية من منتصف الليل، كان الجزائري بكامل حيويّته، واتّقاد ذاكرته، وعفويّته، وطيبته، فراح يسخر من كلام الطبيب الذي أبلغ أولاده، قبل أربع سنوات، بعد تعرّضه لأزمة قلبيّة،  عقب انتهائه من مناقشة رسالته لنيل درجة الماجستير، أن الباقي من عمر والدكم ليس سوى أسابيع قليلة، ويضحك، لأنّه خيّب ظنّ الطبيب، وبقي على قيد الجمال، فسافر إلى بلجيكا، وأقام هناك، وأكمل دراسته العليا ليحصل على درجة الدكتوراه، في النقد الأدبي، لكنّه لم يتوقّف عند هذا الحدّ، بل عاد إلى مقاعد الدراسة ، ليدرس البكالوريوس  في أكاديمية سانت لوكاس، في  قسم الرسم، ليثري هوايته في الرسم، وقام برسم العديد من اللوحات، واشترك مع مجموعة من الفنّانين العراقيين والعرب، والأجانب، ليقيموا معارض فنّيّة مشتركة، وفوق هذا كان يتحدّث بحماس عن مشاريعه في الكتابة، والنقد، والصحافة،والفن، والحياة .
ولم تفارقه ابتسامته طوال اللقاء، الذي حدّثنا خلاله  عن عزمه على تنفيذ تلك المشاريع، ويكفيه فخرا إنّ آخر كلمة كتبها على صفحته في ال “فيس بوك يوم15 من الشهر الجاري، أي قبل رحيله بتسعة أيّام هي” أحبّكم” في تهنئته بالعيد التي افتتحها بقوله “عيدكم مبارك أيّها الأصدقاء: ربما يخيب ظن الناس الذين لم يضع أطفالهم حذاء جديدا ً وفستانا ً أو حتى دشداشة، تحت وسائدهم في انتظار فجر العيد”، وختمها بالسطور التالية” سأنتقل إلى شقتي الجديدة غدا ً، ومنذ الغد حتى يأزف موعد التقني الانترنيتي، سأكون خارج نطاق الشبكة منقطعاً، وخارج عنواني الحالي منتقلا .
 لذا سلفا ً(أعيدكم) وأحييكم وأتمنى أن تبقى أفعالكم الطيبة هي العيد الحقيق الدائم المسرات.. فقط تـذكروا أولئك الذين فرض عليهم الصيام عن الفرح بسبب العوز أو الفقر أو غياب المأوى الكريم الدافىء أو الفقدان لعزيز غال….أحبكم!”
لقد كانت تلك التهنئة بمثابة تلويحة وداع، إذ انتقل إلى شقّته الأبديّة، ليظل “خارج نطاق الشبكة” داخل أسر الأبد، فلم تكن تهنئة، بل وصيّة من كاتب، وناقد، وإنسان، جعل من الكلمة موقفا ، ومن المحبّة طريقا، لبلوغ مراتب الكمال، فلم ينس الفقراء الذين حرموا من العيد بسبب الفقر، وغياب المأوى الكريم”في إشارة إلى النازحين عن ديارهم، في المناطق التي احتلتها عصابات “داعش” في العــراق وسوريا. 
رحل الجزائري، وظلّت أحاديث تلك الليلة محفورة في ذاكرتي، مع ابتسامته الحيّة التي لم يهزمهـا الموت.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *