مسرحية «جروح».. ذاكرة الوجع الخفي والأسرار المطوية

مسرحية «جروح».. ذاكرة الوجع الخفي والأسرار المطوية
آخر تحديث:

د.عواطف نعيم 
«جروح» عرض مسرحي حل ضيفا أنيقا على خشبة قصر الثقافة في مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي الدورة الأولى، أعلن عن وجوده بين مجموعة العروض التي تنافست على جوائز هذا المهرجان بثقة وحرفية ملفتة للنظر واستطاع أن يطرق أبواب قلوب المتلقين ويأسر وجدانهم بيسر وعذوبة، ولعل جمال العرض يكمن في أمرين  أولهما حكاية العرض (النص المسرحي)، وثانيهما عفوية الأداء  وبساطته. هذا النوع من العروض حين نضعه في معايير النقد وضوابطه نجده ينتمي للواقعية الجديدة التي لا تستغني عن الابتكار والتجريب في عدد من عناصرها وآلية اشتغالها، وكي ننصف هذا العمل الفني الذي أنجز ليكون عرضا منافسا لبقية عروض المهرجان الذي  تضافرت جهود عديدة لتقديمه في تلك الحلة القشيبة لابد لنا من تفكيكه وتحليله مبتدئين بالنص المسرحي.  

نص العرض

تبقى الحكايا واحدة من العناصر المؤثرة في أي عرض مسرحي ومن يتتبع مسيرة كتاب المسرح العالمي سيجد أن الحكايا تشكل الثيمة الاساس في نصوصهم سواء أكانت تستمد فكرتها من الميثولوجيا والأساطير أو تلك التي تعتمد المجتمع الإنساني لحياة الملوك والأمراء ووقائع أحداث الفروسية والنبلاء.
 في المسرح شكلت الحكاية واحدة من عناصر العرض المسرحي التي يتشوق لها المتلقون والمتابعون لهذا الفن الجليل المسرح، ولعل مسرحية «جروح» وجه من تلك الأوجه التي تكون الحكاية المرتكز الأساس في نسجها وأحد أسباب نجاحها وتميزها فقد شكلت الحكاية التقاطات ذكية لحالات إنسانية زجت وسط أحداث دفعتها لخوض صراعات واحتدامات كانت نتائجها مفاجأة أثارت من الدهشة بقدر ما أثارت من الإعجاب.
قام المتن الحكائي لهذا العرض على واحد من نصوص الكاتب المسرحي الإماراتي إسماعيل عبدالله تحت اسم ( بقايا جروح)، وقد كتب النص ببراعة صياغة ومتانة حبكة ولغة فيها من روح الشعر ما ميز النص ومنحه شفافية وشجناً، الشخصيات تم الاعتناء ببنائها وتركيبتها النفسية والاجتماعية كما جاءت خطوط الحكايا الدرامية متداخلة ومتقاطعة مما ولد وفجر لحظات الصدام والمواجهة وصولا إلى ذروة الصراع حين تعرية الحقيقة وإعلانها، وكانت في تسلسلها خالقة لحالة من الشد والمتابعة،  لعل نبل الشخصيات ودفئها وانغمارها بأوجاعها دون البوح بما يمور في داخل النفس الإنسانية خلق تساؤلات كثيرة أفضت  إلى حالة من التشويق والترقب لمعرفة كنه الحكاية، عمد المخرج إلى النص الأصلي «بقايا جروح» فغير وأعاد  تركيب المشاهد و بناء الأحداث بما يتناسب ورؤيته الفنية والفكرية  لتقديم العرض على خشبة المسرح إلا انه كان مهتما بألا يمس جوهر الحكاية وثيمتها، وبذلك كان حريصا على نص اسماعيل عبد الله، أكثر من حرصه على بناء عرض مسرحي يعيد قراءته وفق رؤية فنية وفكرية جديدة  فجاء الإعداد محدودا لم يخرج عن معطيات النص الأصلي للكاتب  بل عززها وأكدها بأمانة وحرص.  

الإخراج  ما بين التفسير والاجتهاد

وتختلف المستويات الرؤيوية بين المخرجين فمنهم من يكتفي بتقديم النص وتفسيره كما أراد صاحب الفكرة الأولى وصانع أحداثها ومنهم من يعيد القراءة بنفس الحاضر وتداعيات أحداثه وقد يزيح في قراءته الجديدة الفكرة الأساس ليحل بديلا عنها الفكرة التي تشغله ويكون النص المقدم الوعاء المناسب لاحتوائها، فماذا عن عرض جروح.
ابتدأ العرض المسرحي بمشهد استهلالي عبر المستوى الثاني على الخشبة، الذي تمثل بجدار البيت  الكبير الذي هيمن على الباحة التي توسطت المكان، والتي وضع فيها أريكة خشبية كبيرة وعلى الجانب الآخر وفي الطرف من الباحة انتصب قفص خشبي تنزل منه ما يشبه الجدائل النسائية المضفورة وفي الداخل جسد مسجى لامرأة نعرف من خلال الأحاديث أنها تحتضر لكن الذي  يلفت أنظارنا تلك اللوحة الاستهلالية التي يتحول من خلالها جزء من الجدار الأمامي للبيت إلى شاشة عرض شبه معتمة لمكان ينتصب فيه ظل رجل يرمي غطاء على امرأة ملقاة على ظهرها قريبا من قدميه  وصرخة المرأة المسجاة في القفص الخشبي فكأنها تفز من حلم، ندخل بعد هذا المشهد الاستهلالي إلى مسرحية واقعية لعائلة تنتظر وفاة الأم وتفكر بالميراث وتخطط لما بعد الوفاة  أكثر من اهتمامها بالمرأة ذاتها.
ومع توالي التركيب المشهدي للأحداث ندرك عمق الهوة التي تفصل تلك المرأة المحتضرة وولدها وابنتها عن بقية أفراد الأسرة، الذين يكشرون عن أنياب بعد معرفتهم بما كتبته في وصيتها، وهي صاحبة الثروة الحقيقية في تلك الأسرة، بعد ذلك تتدخل شخصية الجار الفضولي لتفضح علاقة سابقة لهذه المرأة المحتضرة مع شخص ما يدعى سند وقد أسمت  المرأة المحتضرة ابنها على اسمه، ويؤكد هذا الحدث عودة المشهد الاستهلالي الذي يجمع بين رجل وامرأة في وضع يبث الأسئلة عن حقيقة تلك المرأة وذلك الرجل البدوي الغريب،  تتدافع الأحداث ونعلم من خلال صدام الشخصيات وجدلها مع بعضها أن ثمة حبا مفقودا  في حياة تلك المرأة المحتضرة.
وأن ما يجمع العائلة هو الجشع وليس المحبة الخالصة  التي تفرضها الحياة الأسرية وطبيعتها لاسيما مع الزوج، ومع تكشف الحقائق وصحوة المرأة المحتضرة تنجلي الحقيقة ويفتح جدار البيت من وسطه لتطل علينا الاحداث التي كانت تتسلل الينا دون أن تفصح بل تلمح  الى حدث مبهم  فتتجمع الأحداث وتكتمل الصورة  لنتعرف إلى ذاكرة المرأة في قفص أوجاعها ومحبس ذكرياتها عن شخص حمى عفتها وصان شرفها حين تعرضت إلى محاولة اغتصاب من لصوص هاجموا قافلتها حين كانت هي وأبوها في رحلة في الصحراء  وهي لما تزل يانعة، وأن هذا الرجل البدوي الأصيل رفض الزواج منها حتى لايكون هذا الزواج ثمنا لفعل نبيل حتمته الرجولة وفرضته القيم الأصيلة  في دفاعه عنها،غلفت تلك المرأة الأم ذكرياتها وأغلقت قلبها على حبها وعاشت في كنف زوج يحسب الحساب للمال والثروة أكثر من المشاعر والعواطف، ولكن عند اشتداد الجدل الذي يمس الشرف، تنهضها لحظة الاتهام مانحة إياها  صحوة احتراق على عفتها فتتحامل على آلامها وتنهض لترقص مثل حمامة مذبوحة  أمام الرجل الذي أحبته بصمت وظل بعيدا عنها جسدا وروحا إلا أنه تغلغل في ثنايا وجدانها وسكن في قلبها  وظل يراودها في أحلامها، وتلك لحظة درامية ساخنة حين يجتمع الغريب المحب لطقس العارضة الراقص  والزوج الذي يدعي الشرف والصلاح وهو في حقيقته يسعى الى التركة اكثر من حرصه على الشرف والخلق القويم، انها لحظة تعرية للحقائق لم يمنحها المخرج ما تستحق من شغل مسرحي يتناسب وحالة الاحتدام والكشف تلك.
فمرت عادية على الرغم من أن الطقس الفلكلوري الذي أوجده المخرج داخل ثنايا العرض كان من المكن أن يثور ليمنح الحالة الدرامية على الخشبة زخما دراماتيكيا كبيرا، كما أنه لم يوظف الإضاءة لتكون نصا آخر مضافا يعبر عن الحالات النفسية والتحولات الدلالية في الأحداث ويكون عاكسا للجو العام الذي غلف العرض بالشجن الشفيف،لكن لولا وجود الديكور وتحولاته وعكسه في انفراجه وتداخله لذاكرة المرأة لما خرجنا بملمح تجريبي وجمالي منح العرض فرصة للمغايرة والخروج من الروح الواقعية التي اتسم بها.  لذا لابد من الاشارة  الى أن من صمم ديكور هذا  العرض  هو الفنان التشكيلي عبد الله يوسف.  لذا كان لزاما أن نشيد بما أنجز هذا الفنان وكيف وظف الديكور ليكون جزءا فاعلا داخل العرض في التكثيف وبلاغة الدلالة، تفاوت الأداء  بين الممثلين رغم المساحة الكبيرة التي أتاحتها بعض الشخصيات في العرض لعدد من الممثلين مما جعلهم أسيري الأداء النمطي الواحد، الالتماعات تجلت في أداء الجار وقد جسده  ببراعة الفنان  أحمد المجلي. لم يكن يعيب العرض واقعيته لأنها نابعة من روح النص وزمنه ومكانيته، لكن الإخراج رؤى وتصورات جمالية وفكرية يلعب فيها البصري الدال دورا كبيرا في تقديم وتجسيد  العرض وقراءته وهنا كان المخرج الفنان عبد الله السويد منفذا للنص، سابحا عند حدود المنطوق اللفظي دون أن يلج إلى وهج البصري التعبيري،ومع ذلك يبقى عرض مسرحية «جروح» لفرقة «أوال» البحرانية من العروض الجميلة في طروحاتها وفي اشتغالها المسرحي لاسيما أنها ناقشت موضوعة مهمة هي موضوعة الحب والمسكوت عنه في الحياة الاجتماعية بحكم التقاليد والأعراف، وهي أحكام قد يكون فيها أحيانا الكثير من الجور والخنق لمشاعر المرأة وحاجاتها. 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *