عندما يكون استخدام اللون من قبل الفنان استخداما قصديا، يصبح في الرؤية النقدية انزياحا من اللون الطبيعي إلى اللون الفني، فتجد خصوصية الفنان فيه، عندئذ لا يكون اللون منقولا من الطبيعة، انما ثمة تغيير يعبر اللون الفني به عن موقف، وعندما يتحول اللون بعدئذ في اللوحة إلى قيمة جمالية سيكون موضع تساؤل عن كيفية استعماله، هل ثمة غرض ما من وراء ذلك ؟ هذا هو السؤال الجدلي الذي ينتج عن الخصوصية التي اضفاها الفنان على اللون. ماعدا الانزياح والرؤية القصدية لجدوى الاستعمال، يصبح اللون معطى للمشابهة بين الطبيعة والفن أيا كان مكانه وزمانه. لذلك يضع الفنان بصمته في ألوانه وخطوطه نتيجة موقف يتخذه في اللوحة. المشكلة المعيارية هي في ديالكتيك المشابهة اللونية بين الطبيعة والفنية، هل كان جديدا، منقولا، محايثا،أم يمهد لنقلة فكرية؟ لقد قطعت الفنون والآداب أشواطا طويلة وهي تنقل ما في الطبيعة من ألوان أو أفكار وتناغم شكلي لتقلدها، أو تحرفنها، بمعنى أن المشابهة كانت الأرضية الفكرية للفنون وللنصوص الأدبية أيضا، مؤكدة من خلالها العلاقة بين اشياء الواقع ومختبرية اللوحة الفنية، ولكنها علاقة تميزت بتطور منوع لمدارس الفن التشكيلي عبر التأريخ. كانت المشابهة في العصر اليوناني تعني أنْ تلمَ اللوحة، حسب رأي أفلاطون بشيء من الحسابية الدقيقة مع انه يقول : «إن الرسم فن يعتمد الخداع في المظاهر الخارجية، لذلك فالتقليد لا يكفي… ولكن على الفنان المقلِد أن يلتزم بثلاثة أمور: «المثال المُقلَد، ثم دقة التقليد، وأخيرا براعة التقليد، سواء أجاء هذا التقليد في الكلمة أم في اللحن أم في المقياس».. ولكن التوازن والمقياس في مراحل الانطباعية مثلا هو أن يغير الفنان من درجات اللون الطبيعي مضيفًا إليه انفعالاته ورؤيته الذاتية، فيبدو انَه مغاير وشخصي، في حين أن الانطباعية لا تزال تمتح من توازن ألوان الطبيعة حرفيات المشابهة غير الملتزمة كليا بالطبيعة. هنا لا يمكننا الركون في مفهوم تدرجات اللون إلى انطباعية تصويرية للعين، بحيث نصدر حكما على اللوحة فيما إذا كانت مشابهة للواقع أو منزاحة عنه، فاللون مهما كانت وظيفته في اللوحة، هو شيء لا ينفصل عن بنية الشيء الأصلي، مضاف إليه قدرة الفنان على التنسيق والتناسب والقياس. ولكن النقد لا يراه هكذا دائمًا، بل يرى دلالته اللونية المرتبطة بالمكان والزمان، بمعنى ثمة اضافة لونية للون الطبيعي الأصلي عندما يتغير مكان الشيء أو زمانه. معظم لوحات فان كوخ الريفية تصور حقولا صفراء. وبحواش وطرقٍ خضراء، هذا شيء طبيعي ينسجم لونا وواقعا مع الطبيعة في فصل الحصاد، لكن اللون الأصفر يعبر في تركيبته الايديولوجية ليس عن نضج قمح الحقول واثمارها، إنما عن الثراء ومعنى الخصب لتربة الحقول في تغيرات الفصول، مضافا إليها اثر الزمن، هذا يعني أن اللون يرتبط بالأرض/ المكان، وبمواسم الزرع/ الزمان، فيدخل اللون في اللوحة كمشابهة مؤقتة وليست مشابهة دائمية، بمعنى أن اللون ينزاح من الطبيعة إلى الفنية، ويدخل في سياق اجتماعي، اقتصادي، ثقافي، نفسي، ويكون الرسام في يقظة حلم شعري عندما يختار مرحلة طبيعية للمشابهة الفنية، فليس كل الحقول صفراء طوال الوقت، كما أنها ليست خضراء طوال الوقت أيضا. اللحظة المفصلية لتدرجات اللون يكون اختيارا قصديا، أي أن المكانية تفرض رؤيتها على اللون، بينما الزمانية تحددها. فلم يعد الرسام ملزما بأن يرى الأشياء بكل دقة كما يجب، إنما عليه أنْ يرى الأشياء وهي في علاقتها بالأمكنة والأزمنة، وهنا يبدأ الجدل عمله، فالشيء وحده في الطبيعة مختلف عن الشيء في علاقاته الفنية. ديالكتيكية اللون، واحدة من الثيمات الأساسية لحسم الموقف عند الفنان، فالمعروف أن للألوان نسبا ودرجاتٍ، تأتي من التناسب الكمي لتكوين لون مناسب للفكرة، وهذه عملية صناعية بعض الشيء لكنها لا تخلو من المخيلة والعقلية معًا. ما نعنيه بالديالكتيك هنا، هو أنْ يشخص اللون درجة معينة من الصراع مع ألوان أخرى، لتكون اللوحة عبارة عن تدرجات لونية مغايرة لكل الألون الطبيعية، بالرغم من أنها نشأت منها. هذه العملية الديالكتيكية ليست تقنية الخلط، إنَّما هي احساس بتطور محتوى ألوان اللوحة، حين تكون معبرة عن قضية اجتماعية أو إنسانية.. وأنها في احتدامها مع بعضها تنتج مواقف تفسير مختلفة. كان فنانو عصر النهضة يمعنون في تدرج الضوء والظلال، وهذه التدرجات اللونية تعطي انطباعا بتعقيد المشهد وتنوع الصراعات فيه، لكن مجموعة من الألوان في اللوحة الحديثة، خاصة اللوحة التجريبية، تلعب دور العوامل المتصارعة، فتخلق كتلا لونية جديدة، ربما تكون النتيجة خطوطا ومساحات وكتل، بعضها يظهر للعيان وبعضها مختف في العمق كلوحة الجورنيكا، وهي توزع مساحاتها الداخلية بخطوط واضحة ومختفية دالة بها بين الصراعات التي سبقت قصف القرية، وعلى النزاعات الفكرية التي هيمنت في الحرب الأهلية الإسبانية، ليس من خط لايوصل بين متصارعين، وليس من نقطة لا تعني شخصية، وليس من كتلة لا تعني جماعة معينة، ما يكشف عن هذه الجدلية هو اللون، وقد تقاسمته خطوط ومساحات تعبر عن تدرج مسارات القضية التي مرت بها. القراءة للوحة ليست بصرية فقط، إنما تتم في تجربتنا وخبرتنا ووعينا، فعندما تكون الطبيعة حاضرة أو منزوية بعيدا أو معبرة عن الصراعات الاجتماعية القديمة، تبرز الألوان عتمة التأريخ، بينما تجد ثقافة العصور الحديثة تطعم الألوان بحركية أكثر حضورا في البنية الاِجتماعية الحديثة، لوحات «كارل أبل» الحديثة، حيث يكون بعضها عبارة عن كتل لألوان من التيوب. إن ما يبرز على واجهة اللوحة هو ثقافة وفلسفة القرن العشرين، كنتيجة لتدرج الاختلاف في رؤية الصراعات ، وقد أنتجت رؤى حديثة ليست نقية من تلك الصراعات ولا مغايرة كليا لها. فجدلية اللون وتناسبه وتنوعه، هي نتيجة لجدلية اجتماعية وجدت صداها في الفن.