جماليات اللغة في القصة القصيرة.. مفاهيم أولية

جماليات اللغة في القصة القصيرة.. مفاهيم أولية
آخر تحديث:

بغداد: شبكة اخبار العراق- تحظى اللغة في القصة بنصيب من الدراسة يضارع أو يقارب ما حظيت به عناصر السرد الأخرى، على الرغم من أنها المظهر السردي الوحيد الذي يتمتع بوجود مادي محدد يتمثل بالنص المطبوع، فضلا عن أنها العنصر الأهم الذي بسببه نعد القصة نصا أدبيا. قد تجعلنا ثقافتنا الشعرية المتغلغلة في لاوعينا غافلين عن الفرق الجوهري والبنائي بين لغة القصيدة ولغة القصة. ففي الشعر تكون اللغة شديدة الالتصاق بالشاعر، تبنى من معجمه اللغوي وتعبر عن ذاته. أما القصة فمن شرائط نجاحها أن يكون القاص قادرا على أن يتبرأ من لغته الشخصية وقاموسه الشخصي، فهو يخترع راويا وشخصيات ويخترع معها لغتها. فالشخصية القصصية هي لغتها التي تعبر عن وعيها وثقافتها ومزاجها السيكولوجي، لكل شخصية معجمها وتراكيبها وعاداتها اللغوية. وهذا أول مفاهيم جماليات اللغة القصصية. في الشعر نبحث عن اللغة المدهشة التي تفاجئنا بما لا نتوقع من انزياحات وصور مبتكرة تكثف المعاني وتحملنا على تأملها. أما في القصة فاللغة التي تدهشنا هي لغة الحياة الواقعية، فهي تدهشنا بقدر ملامستها لواقع الفضاء القصصي وتعبيرها عنه بما ينفخ الحياة في الراوي وشخصياته. ثمة مستوى من اللغة يسمى بالإنجليزية Slang ويمكن أن نسميها اللغة الخاصة، فكل شريحة اجتماعية تستعمل مفردات معينة في تعاملاتها اليومية لا تستعملها شرائح أخرى، فلغة عمال الميكانيك مثلا تختلف عن لغة عمال البناء، زيادة على أن هذه اللغة تتغير بحسب الزمان والمكان، فلغة عمال الميكانيك قبل خمسين عاما ليست كلغتهم اليوم، وهكذا يكون على القاص أن يتعلم لغة الشريحة التي تنتمي إليها شخصيات القصة التي يعكف على كتابتها. وعدا اللغة الخاصة هناك سمات شخصية وفردية فلكل إنسان مفردات يكثر من استعمالها حتى تصبح مظهرا فرديا يتسم به. وكل شخصية تفضل صياغات لغوية محددة. ثمة شخصية تفضل استعمال السؤال أو إظهار الدهشة، وشخصية تحب التفكه بلغتها وشخصية جادة، شخصية تفضل الإيجاز وشخصية مسهبة. ومن جماليات لغة القصة أن تنجح في تقمص لغة شخصية تبرز العادات اللغوية لشخصياتها. وحين توضع الشخصية في موقفين قصصيين متعارضين فلا بد أن يظهر التعارض وتغير المزاج في اللغة. فمثلا يمكن أن تتخلى الشخصية عن الإتكيت والمجاملة حين تواجه موقفا يدفعها إلى التوتر أو تكون في مواجهة تهديد وجودي. تعبر اللغة أيضا عن المستوى الثقافي والعلمي للشخصية، فلا يمكن لشخص أمي مثلا أن يستعمل تعابير ذات مساس بالقراءة. أو أن يلمح إلى قضية فلسفية أو لها علاقة بنظرية علمية معقدة. بينما يصوغ السياسي لغته صياغات مرنة ومعقدة وقابلة لتأويلات عدة. حين يكون الراوي طفلا فإن على القاص أن يعرض رؤية الراوي للعالم بلغة الطفل، وفي مثل هذه الحالة يكمن جمال اللغة في قدرته على عرض مفاهيم معقدة سيفهمها القارئ من غير أن يكون الراوي قد فهمها. وهذه الحالة تختلف عن راو بالغ يحكي عن طفولته، فهنا سيكون عليه عرض رؤية ازدواجية، تصف تصورات الطفل لكن بلغة البالغين. وعندما ينقل الراوي كلاما عن شخصيات أخرى غائبة فإنه سينقلها بلغته، وهذا يعني أنه سيجري عليها تعديلات قد تتضمن الاختصار والاختيار وتغيير اللهجة من حيث حدتها أو لينها. وقد يغير المفردات بطريقة تغير القصد أيضا. فاللغة، إذن، أهم ميادين الإبداع القصصي وأصعبها. وإن مما يضعف القصة طغيان لغة كاتبها على لغة شخصياتها. فحين تتكرر عبارات معينة ومفردات محددة في أكثر من قصة واحدة للقاص فإنه سيكون حاضرا في ذهن القارئ كأنه يفرض عليه وعلى شخصيات القصة سلطته وتأويلاته. إن اللغة القصصية هي الأداة السحرية للتخييل التي تعيد خلق الواقع وتجسده على الورق.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *